نحو فهم المعادلة السياسية الجديدة فى الحكم

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: الأحد 6 سبتمبر 2015 - 5:30 ص بتوقيت القاهرة

فهم الظواهر السياسية، يتطلب فهم القوى السياسية والاجتماعية التى تملك عوامل التأثير وفرص التغير أو الاستمرار فى المجتمع. نظام الرئيس الأسبق مبارك والنخب التى ارتبطت به فشلت فى فهم التطورات الطارئة على خريطة القوى السياسية والمجتمعية والتى تشكلت مع مطلع الألفية الثالثة، فكانت مجموعة من الحسابات الخاطئة التى انتجت سياسات فى الاتجاه المعاكس لمصالح وأجندات هذه القوى أدى إلى هزة النظام وانهيار عدد من ترتيباته المؤسسية فى يناير ٢٠١١. وبالمثل، لم تفهم بعض القوى الإسلامية التى سيطرت على المشهد فى الفترة بين ٢٠١١ و٢٠١٣ طبيعة توازنات القوة بين الفاعلين السياسيين فى تلك الفترة فكانت الإطاحة بها فى يونيو ٢٠١٣، ثم أخيرا كانت حسابات ما عرف باسم القوى المدنية والليبرالية خاطئة فى قراءة المشهد فى الفترة التى تلت أو ــ فى الواقع ــ سبقت يونيو فانتهى الحال إلى هذه النقطة التى وصلنا إليها والتى هى فى الواقع مزيج من معادلات سياسية قديمة وحسابات جديدة بعضها استقر والبعض الآخر فى طريقه إلى التشكل. تسعى هذه السطور إلى تقديم قراءة أولية لهذه المعادلات الجديدة تظل خاضعة للتحديث والتعديل المستقبلى.

***

المعادلة السياسية لمبارك وتحديدا فى الفترة من منتصف الثمانينيات وحتى عام ٢٠٠٥ اعتمدت على ثلاثة محددات، الأول أنها معادلة زبائنية clintalist وهو محدد مستمر منذ انشاء الجمهورية فى مطلع الخمسينيات ويعتمد على اعتبار أن المواطنين وجماعات المصالح والوسطاء السياسيين المعبرين عنهم هم مجرد زبائن يقبلون على موارد الدولة ويسعون للحصول على أكبر قدر منها، فيقوم النظام السياسى هنا باستخدام مساحة معنوية (ذهنية) تسمى الدولة تحتكر هذه الموارد، بينما يقوم النظام على أرض الواقع بتدوير وتوزيع هذه الموارد على الزبائن ووسطائهم. توزيع الموارد والقيم والامتيازات هنا مرتبط بدرجة ولاء هؤلاء الزبائن ووسطائهم والتزامهم بقواعد المعادلة السياسية المذكورة، فبقدر التزامك وولائك ومهارتك بقدر حصولك على هذه الامتيازات فى شكل وساطة ومحسوبية تعطيك منحا وعطايا أو تعطيك استثناءات تتمكن بها من تطوير مكانتك فى المجتمع.

كما أنها اعتمدت ثانيا على إقامة منطقة عازلة بين المدنيين والعسكريين، بحيث تمكن مبارك ــ منذ إقالة المشير أبو غزالة ــ من إبعاد المؤسسة العسكرية عن الحكم المباشر وخصوصا فى دوائر السياسة العليا فى مقابل إعطاء مزايا اقتصادية ومؤسسية للجيش استقل بها نسبيا عن الشأن السياسى المباشر والسياسة الخارجية للدولة وفى مقابل ذلك تم الاعتماد على نخب شبه مدنية فى معظمها من الكوادر الشبابية التى أخرجتها تجربة التنظيم الطليعى فى الخمسينيات والستينيات على مستوى السياسات العليا، مع الاستعانة بعدد من العسكريين والشرطيين والمدنيين فى مستوى صنع السياسات المحلية. واعتمدت المعادلة المباركية ثالثا على تهميش المعارضة من لعبة الحكم مع التركيز على استبعاد الإسلاميين تماما بعد أن أثبتت تجربة انتخابات النقابات فى التسعينيات أنهم قادرون على التنظيم والحشد. سمحت معادلة مبارك للإسلاميين ــ ممن لم يتبنوا صراحة المنهج العنيف ــ بالعمل المجتمعى والخيرى والدعوى، وضربت بقوة على يد الجماعات الجهادية العنيفة قبل أن تجبرها لاحقا على تقديم مراجعات.

مع العام ٢٠٠٥ كان واقع جديد يتشكل بظهور جماعات سياسية واجتماعية معارضة للحكم ولاحتمالية التوريث مدعومة بجيل جديد من الناشطين الشباب والمدونين الذين تمكنوا من استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة لخلق نمط جديد من الحشد لم يفهمه النظام جيدا بالتوازى مع حصول جماعة الإخوان المسلمين على مساحات أوسع سواء داخل مؤسسات النظام (المؤسسة التشريعية) أو بالتحالف مع جماعات المعارضة (كفاية والجمعية الوطنية للتغيير) وكانت حركة النظام الإصلاحية ــ بفرض وجودها ــ أبطأ بكثير من حركة القوى السياسية والمجتمعية الجديدة حتى كانت يناير.

***

فى الفترة من ٢٠١١ وحتى يوليو ٢٠١٣ لم تتشكل معادلات سياسية جديدة، كانت ديناميات الانتقال تتفاعل سريعا هبوطا وصعودا بين أربع قوى رئيسية: (الإسلاميين، الثوار من غير الإسلاميين، القوى التقليدية، والجيش) وكان الجيش هو الثابت الوحيد فى المعادلة بينما تنوعت شراكاته مع القوى الثلاث الأخرى بحسب طبيعة اللحظة وحساباتها، حتى تم الإطاحة بالرئيس السابق مرسى بإعلان عسكرى حصد دعما شعبيا ونخبويا واسعا، ثم كانت لحظة التفويض (٢٦ يوليو) وهى أول لحظة تشكل محاولة حقيقية لإرساء معادلة جديدة للسياسة والحكم منذ تنحى مبارك. هذه المعادلة السياسية الجديدة التى بدأت إرهاصاتها فى التشكل بعد لحظة التفويض ومازالت تتشكل حتى الآن لها خمس ملامح رئيسية:
أولا: الزبائنية على النحو الذى ميز دوما سياسات الجمهورية منذ إنشائها، فالمعادلة الحالية تبدو وكأنها بعيدة تماما عن أدوات المسئولية والمحاسبة والشفافية، فالدولة مازالت مساحة معنوية وذهنية لإلهاب المشاعر، بينما فى الواقع هناك نظام سياسى يحتكر الموارد والقيم والامتيازات فى المجتمع ويقوم (سيقوم) بتوزيعها على شبكات المنتفعين والوسطاء السياسيين. هذه الفئات الأخيرة هى فى النهاية نفس الشبكات السياسية التى تشكلت قبل ثورة ٢٥ يناير مجموعة من العائلات وأصحاب النفوذ القبلى والمالى الذين يقدمون أنفسهم للنظام باعتبارهم حراس بوابات المحليات والقادرين على ضبطها وضمان ولائها مقابل الحصول على حصة من الموارد والامتيازات. وسواء ارتاح النظام لهذه الشبكات أم لا، فطالما اختار الزبانية فلن يجد ببساطة غيرهم.

ثانيا: تأميم السياسة، وقطعا هذا متشابك مع عملية الزبائنية ولكن التأكيد عليه هنا لإقرار أن المعادلة الحالية لن تكون مشابهة للفترة من ٢٠٠٥ وحتى ٢٠١٠ وقطعا هى بعيدة عن الفترة بين ٢٠١١و ٢٠١٣، وهى تعتمد بالأساس على عدم السماح إلا بالتعدديات الشكلية مع وجود ميزان السياسة فى أيدى الأجهزة الأمنية تحديدا، فهى المنوط بها تحديد مساحات الحركة وحرية التنافس من عدمها، كما أنها وبكل تأكيد قررت عدم السماح بأى مظاهر حراك كلما أمكن لها ذلك، وبالتالى فالدرس الذى تعلمته الأجهزة الأمنية أن تساهل مبارك مع المعارضين وغضه الطرف أحيانا عن أنشطة الحركات الاجتماعية والاحتجاجية التى نشأت مع مطلع الألفية الثالثة هو السبب فى سقوطه، وسواء اتفقت مع هذا الدرس او اختلفت معه، فهذه هى قناعة الأجهزة ولا يبدو أن هناك أملا لتغيير تلك القناعة قريبا.

ثالثا: نفوذ أكبر للمؤسسة العسكرية فى السياسة والمجتمع، فانتهت إذا معادلة مبارك فى إقامة منطقة عازلة شغلها هو ونخبته بين المدنيين والعسكريين، ليعود الجيش ليشغل هذه المساحة وخاصة فى ظل انهيار حزب الدولة الأوحد، وعدم قدرة أحزاب أو قوى سياسية واجتماعية بديلة على ملء هذه المساحة. فضلا عن أن الجيش ومع الحرب على الإرهاب أصبح له أدوار أكبر فى الاقتصاد والسياسة والأمن الداخلى ايضا.

رابعا: استبدال الحلفاء الإسلاميين، فى الواقع ترددت كثيرا فى تسمية هذا الملمح من المعادلة التى تتشكل الآن، فمن ناحية النظام بالفعل استبعد الإخوان تماما من المعادلة، ومع حملات القمع المتتالية من ناحية النظام، وإعلان الجماعة أو تابعين لها بصيغ مختلفة اللجوء إلى العنف والتخلى عن مبدأ السلمية فمن المستبعد أن تعود معادلة مبارك مرة أخرى، لكن من ناحية أخرى فالنظام لم يعط ظهره للإسلاميين بشكل تام، سواء بالإفراج عن بعض المعتقلي من الإسلاميين وشبابهم أو عبر التحالف مع حزب النور وهو ما عضده تصريحات الرئيس الأخيرة لشبكة سكاى نيوز من أن حزب النور هو «حزب سياسى وليس دينيا» لينفى إذن أى احتمالات لاستبعاد الحزب أو الانقلاب عليه فى الأجل القريب. الأقرب لذهنى أنه وبعكس آمال بعض النخب العلمانية والمدنية فضلا عن بعض التحليلات الأكاديمية بعد ٣ يوليو من أن الإسلاميين ذهبوا بلا رجعة وبأن حركة تنويرية إصلاحية سيقودها السيسى للقضاء على الإسلام السياسى فإن المعادلة الجديدة ستواصل التعاون مع الإسلاميين مع تغير الطرف المتحالف معه بشروط لم تتضح بعد وربما لا يتوقف الأمر على حزب النور فى المستقبل!

أخيرا: يبدو الملمح الأخير للمعادلة الآخذة فى التشكل الآن أن النظام المصرى سيواصل خارجيا الاستفادة من تناقضات البيئة الإقليمية والدولية لصالح تعظيم الاستفادة من المواقف السياسية للدول العظمى والإقليمية، ويبدو النظام حتى الآن ناجحا تماما فى هذا الشأن خاصة أن الرئيس أصبح يعتمد (فيما يبدو وليس لدى معلومات موثقة) على وزارة الخارجية فى عملية صنع السياسة الخارجية بدرجة أكبر من أسلافه وأن تنسيق الأجهزة فى صنع التحركات الخارجية يبدو أفضل من ذى قبل.

***
مازالت هذه الملامح قابلة لقراءة ثانية وثالثة مع تعديلات فى بعض عناصرها، كما أن المشروح أعلاه يواجه تحديات كثيرة مستقبليا، فالإقليم هش وملىء بالتناقضات، والتحالفات التى يقوم بها النظام الآن داخليا بها تناقضات مصلحية كثيرة ليس فقط بين القوى المتحالفة ولكن أيضا داخل أروقة النظام وأجهزتها، كما أن القوى المقموعة من المرجح لو استمرت المعادلة الحالية على حالها أن تلجأ لمزيد من الأعمال السرية وربما العنيفة، اذا أضفنا إلى كل ذلك المصاعب الاقتصادية والأمنية، فإننا وبكل تأكيد سنكون مقبلين على مزيد من التطورات وربما المفاجآت وكل هذا سيتضح بشكل أكبر بعد تشكيل البرلمان والذى هو بدوره يحتاج إلى إسهاب لاحق.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved