الشكل الرابع من العولمة

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الإثنين 6 سبتمبر 2021 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

نشرت مجلة AEON مقالا للكاتب مارك ليفنسونيس تناول فيه تغير شكل العولمة وتنقل السلع عبر العالم من بضائع إلى بايتس وبيانات، وما يتبع ذلك من تحديات... نعرض منه ما يلى:
إذا كان للعولمة صورة تعبر عنها فستكون حاوية الشحن البحرى، حيث يتراكم على سطحها الصناديق الفولاذية والتى تحمل كميات هائلة من الأشياء والبضائع المختلفة عبر المحيطات وحول العالم لآلاف الأميال بتكلفة ضئيلة، لتوفر للمتسوقين فى كل مكان تنوعا غير مسبوق من البضائع تتناسب مع قراراتهم. تبحر أكثر من 5000 سفينة حاويات فى المحيطات اليوم، وهم ليسوا مهددين بالاختفاء، لكن الشحنات التى تحملها هذه السفن العملاقة أصبحت أقل أهمية مع إعادة تشكيل الاقتصاد العالمى من خلال شكل جديد من العولمة. بمرور الوقت، ستقل علاقة العولمة بتصدير السلع المادية عبر الحدود وستكون أكثر ارتباطا بالخدمات والأفكار التجارية. سيكون لذلك عواقب مهمة على العمال والمجتمعات وصحة الاقتصادات الوطنية.
العولمة فى حد ذاتها ليست ظاهرة جديدة. ترجع جذورها إلى التحول الفكرى الذى بدأ فى عام 1817، عندما شرح الممول البريطانى دايفيد ريكاردو كيف يمكن لأى بلد أن يستفيد من خلال الاستيراد والتصدير. ولكن يمكن القول بأن شكل العولمة الذى أدى إلى إعادة تشكيل الاقتصاد العالمى كان يتهاوى منذ فترة طويلة ــ قبل بدء التصويت لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبى عام 2016 خوفا من العولمة وانتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة بعد بضعة أشهر. الأرقام تستحق التأمل. لو شكلت صادرات السلع المصنعة نفس الحصة من إجمالى الناتج العالمى فى عام 2019 كما كانت فى عام 2008، لكانت التجارة الدولية أكبر بما يقرب من 2 تريليون دولار. إذا كان الاستثمار الأجنبى المباشر مهما فى عام 2019 كما كان فى عام 2007، لكان قد تم ضخ 3 تريليونات دولار إضافية فى الأعمال التجارية فى الخارج.
زادت جائحة كورونا بشكل مؤقت من صادرات السلع، حيث وجه المستهلكون غير القادرين على السفر أو حضور الحفلات الموسيقية أموالهم إلى شراء الأثاث وأدوات المطبخ بدلا من ذلك. إلا أن التغيرات طويلة الأمد لم تتوقف، فمن المحتمل أن وحدات البايتس، وليس الحاويات المعدنية، ستحدد شكل المرحلة القادمة من العولمة.
•••
من السهل رؤية هذا التحول من الجانب الثقافى. فباستخدام الهاتف، يمكن لأى شخص مقيم فى أى بلد الإطلاع على الأفكار الدينية والأغانى بلغات مختلفة أو صور الحياة اليومية التى أنشأها مصورو الفيديو فى كل مكان فى العالم، وأصبح من الطبيعى رؤية جمهور صينى يشجع مهاجم أرجنتينى يسجل هدفا لنادى إنجليزى مملوكا لأحد أفراد العائلة المالكة فى أبوظبى.
لكن فى المجال الاقتصادى، سيكون من الصعب قياس عواقب هذا التحول. وهذا يعد هاما لأن فى كل بلد تقريبا يلعب احتساب الصادرات والواردات دورا أساسيا فى السياسة التجارية. الرموز الصناعية لها أهمية؛ حيث يقوم السياسيون بشكل روتينى بزيارات إلى المصانع، متجاهلين أن ما ينتجه المصنع يعتمد على برامج أو أشباه موصلات مستوردة. بفضل سلاسل التوريد العالمى، أصبح الميزان التجارى بين بلدين لا معنى له، فقد تأتى قيمة صادرات بلد ما من مكونات أو تصميم مُستورد، لكن الإحصائيات التجارية هى التى تشكل حُكم الجمهور حول صحة الاقتصاد المحلى وعدالة السياسات الاقتصادية.
•••
تبتعد البيانات المتعلقة بتجارة البضائع عن الدقة، ولكن على الأقل يتاح لمسئولى الجمارك معلومات حول الكمية والقيمة فى كل مرة تدخل فيها ناقلة نفط إلى ميناء أو تعبر شاحنة الحدود. بعض أنواع تجارة الخدمات يمكن أن يتم تجميع بيانات بشأنها؛ على سبيل المثال عندما يشترى مواطن كندى تذكرة طائرة على الخطوط الجوية الفرنسية يتم تسجيل مبلغ الدفع باعتباره استيراد خدمات كندية وتصدير خدمات فرنسية. عندما يشاهد أحد المشتركين فى نيتفلكس فى اليابان فيلما دنماركيا، ستعبر الخدمة الحدود بطريقة قابلة للقياس.
ومع ذلك، لا يمكن احتساب العديد من الخدمات أو تتبعها بسهولة. لنفترض أن بنكا استثماريا فى لندن لديه «مكتب خلفى» فى مومباى. عندما يشترى تاجر فى لندن سندا، تتدفق البيانات من المملكة المتحدة إلى الهند، حيث يحصل موظف البنك على تأكيد، ويرتب الدفع، ويحتفظ بسجلات فى متناول زملائه فى جميع أنحاء العالم. البيانات نفسها ليس لها قيمة يمكن تسجيلها فى إحصاءات الاستيراد فى الهند. لا تسجل أى حكومة عدد البايتس التى تتدفق فى أى من الاتجاهين، ولا مقدار العمالة البريطانية أو الهندية المطلوبة لأداء العمل... فى الإحصاءات الحكومية، لم تتم أى معاملات، ولم تحدث أى تجارة.
يمكن أن يكون قياس حجم التجارة أكثر صعوبة عندما يتعلق الأمر بصفحة على الفايسبوك. ربما يظهر إعلان على شاشة المستخدم بواسطة مقدم خدمات موجود فى بلد آخر، ومقدم الخدمة فى هذا البلد الأجنبى قد يحتفظ ببيانات المستخدم إذا نقر المستخدم على الإعلان. تتضمن هذه المعاملات المنفصلة خدمات إعلانية يتم تقديمها عبر الحدود، لكن لا تترك أيا منها أثرا فى الإحصائيات التجارية لأى بلد.
•••
وسط كل هذا يكون من الصعب معرفة ما إذا تخلف عامل أو مجموعة عن الركب. وهذا مهم. عندما تكون المشكلة هى واردات السلع، أو عوائق أمام صادرات السلع، غالبا ما تبذل الحكومات جهدا لمساعدة العمال المحليين ودعم الصناعات. أما فيما يتعلق بالصناعات الخدمية، سيكون من الصعب فعل الشىء نفسه.
تحدد كل حكومة المنتجات والصناعات التى تعتبرها «حساسة» وبالتالى تستحق دعما خاصا. بموجب الاتفاقيات الدولية، إذا قررت الحكومة أن الواردات المدعومة أو الواردات المباعة بأقل من التكلفة تضر بالصناعة المحلية، فيمكنها الرد برسوم عقابية على السلع المخالفة؛ فعل الاتحاد الأوروبى ذلك فى مارس 2021، مما رفع سعر منتجات الألمونيوم الصينية بنسبة تصل إلى الثلث. يمكن لمثل هذه الإجراءات أن تحافظ على الصناعات التى تعتبر حيوية للأمن القومى، وتحمى السياسيين من فقدان وظائفهم.
لا تصلح أى من هذه الإجراءات للخدمات. إذا أرسل مصنع أمريكى تصميمات قديمة إلى الخارج لتحويلها إلى رسومات تقنية حديثة، فلن تُفرض تعريفات أمريكية، وإذا قامت الشركة الأجنبية بإرسال الرسومات عبر البريد الالكترونى فلن يتم تطبيق أى تعريفات. إذا أثر ذلك بالسلب على وظائف هندسية مماثلة فى الولايات المتحدة فلن يكون هناك سجل يشير إلى وجود واردات. إن الحفاظ على الوظائف، أو ربما مكان العمل بأكمله، عن طريق زيادة التعريفات أو فرض حصة على واردات الرسومات الهندسية لا يعد خيارا عمليا.
لا شك أن المرحلة القادمة من العولمة ستترك بعض الدول والمجتمعات خلفها، فالمكان الذى يفتقر إلى اتصالات قوية بالإنترنت أو قوة عاملة ماهرة تكنولوجيا ليس لديه احتمال كبير للنجاح اقتصاديا. ولكن من المرجح أن تقوم الموجة الرابعة من العولمة بتقليل الأجور فى الدول ذات الأجور العالية بدلا من أن تقضى على الوظائف، حيث يمكن بسهولة نقل العديد من الأنشطة الرقمية من مكان إلى أخر إذا كان هناك فروقا فى تكلفة العمالة.
قد يكون هذا حدث بالفعل. وفقا لبيانات الولايات المتحدة، فإن الأجور فى مجالات مثل صنع البرامج وبرمجة الكمبيوتر وتصميم الجرافيك قد تخلفت عن الأجور فى أنواع أخرى من العمل، ربما لأنه من السهل نسبيا على الشركات نقل العمل الرقمى إلى الخارج. قد تصبح سرقة الملكية الفكرية، مثل نسخ الموسيقى أو برامج الكمبيوتر دون إذن من المؤلف، قضية تجارية أهم من التعريفات الجمركية أو الإعانات المقدمة لشركات صناعة الصلب.

إعداد: ابتهال أحمد عبدالغنى
النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved