نساء على البال

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 6 أكتوبر 2012 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

بدأ قذف العراق فى ليلة 20 مارس 2003، وبعد ثلاثة أسابيع أعلنت وسائل الإعلام سقوط بغداد، فكان الفصل الأخير من حرب لم تتوقف منذ 1991، وأصبحت «أرض السواد» مختبرا لأيام الديمقراطية على الطريقة الأمريكية. اكتست جدران المدينة بعبارات سياسية لتفصح عن رغبة عارمة فى التعبير عن الذات، ظلت حبيسة طوال خمسة وثلاثين عاما، وكُتب أيضا بالإنجليزية على قاعدة تمثال صدام حسين بميدان الفردوس: «لقد تم كل شىء، فارحلوا إلى دياركم» (All done، go home).

 

كذلك امتلأت مقاهى الإنترنت عن آخرها وتسارع الناس لشراء أطباق استقبال القنوات الفضائية وقراءة الصحف والمجلات العربية والأجنبية، فى تعطش شديد لحرية استقاء المعلومات. وخلال ثلاثة أشهر فقط كان عدد المطبوعات السياسية قد وصل إلى خمسة وثمانين إصدارا، بالإضافة إلى جرائد المرأة والدوريات الثقافية والرياضية إلى ما غير ذلك، فقد انتعش المخزون الصحفى للعراقيين الذين راكموا الخبرات فى هذا المجال منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى. وانتشرت أيضا الإذاعات حتى وصل عددها إلى تسعين راديو تقريبا، لم يبقَ منها سوى ستين فى الوقت الحالى، معظمهم يتبعون أحزابا وتيارات سياسية بعينها ويأججون الانتماءات.. وعدد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة يصفون أنفسهم بالمستقلين. ففى بؤر الصراع يزداد مستمعو الراديو، إذ يسهل التنقل به، وأيضا لا يتعارض مع الانقطاع المتكرر للتيار الكهربى، كما هو الحال بالنسبة للعراق.

 

●●●

 

فى تلك الظروف تعمل السيدة بشرى الأمين وفريق إذاعة «المحبة» أو صوت المرأة العراقية، كما تحب أن تضيف دوما. تسافر من مكان إلى آخر، وتحاول أن تذكر مختلف المنتديات أن العراق «هى المختبر» ويجب ألا تنسى فى ظل الربيع العربى.. فمنذ عام تقريبا وراديو «المحبة» يعتمد على التمويل الذاتى، وكان قد أنشأ عام 2005 بتمويل من الأمم المتحدة، بعد حصولها وشركاءها على منحة من صندوق التطوير الخاص بالنساء قيمتها 500 ألف دولار.

 

تحرص بشرى على شراء الملابس «المحتشمة» أو ذات الأكمام الطويلة للتتلائم مع طبيعة الشارع العراقى فى الوقت الحاضر، وتضيف مثلا أن المذيعات تعملن فى الأوقات الصباحية أما ورديات الليل فيفضل تركها للرجال نظرا للأحوال الأمنية، فالمجتمع لم يعد كما كان.. ثم تشير إلى تصاعد زواج المتعة فى بعض الأوساط بعد تسويغه من قبل مراجع دينية فى فتاوى معلنة.. وانتشار المكاتب الخاصة به بعد أن كان محظورا أيام صدام حسين. أهمية ما تقوله السيدة الدارسة للعلوم وإدارة الأعمال والتى عاشت لسنوات فى كندا، ثم رجعت إلى بغداد بعد الغزو، إنها وإذاعتها تعطيان فكرة عن الحياة اليومية دون التوقف عند حد الانفجارات والمليون قتيل الذين راحوا ضحية الحرب وما تبعها.. فهناك تفاصيل جوهرية تظهر من خلال برامج الراديو التى تتخللها المنوعات الموسيقية، وأحاديث حول وضع المرأة فى الدستور وتثبيت حقوقها كمواطنة (بما أن الشىء بالشىء يذكر، ونحن فى خضم مناقشة الأمر نفسه فى مصر). مداخلات النساء من خلال الفقرات التى تقدم النصائح الطبية أو القانونية، وكذا تعليقات البعض على الكتب التى تقرأها بشرى للمستمعين فى برنامجها توضح مدى الخلل الذى أصاب مجتمعا نهضت فيه يوما نساء كصبيحة الشيخ داود، أول من تخرجت فى كلية الحقوق عام 1941، والمحامية أمينة رحال، أول من حصلت على إجازة لقيادة السيارات، وذلك بالطبع بعد أن تكون نادى النهضة النسائية فى العراق عام 1923، وظهرت مجلة «ليلي» النسائية أيضا عام 1933.

 

●●●

 

مكتب الإذاعة الصغير فى وسط بغداد يتسلل عبر الأثير إلى ست محافظات أى حوالى عشرة مليون مواطن ( على موجة 96 ف.م )، قد يتهمه البعض أحيانا بالسعى «لتغريب المرأة العراقية» لأن عددا من القائمين عليه ينتمون لليسار العلمانى، فى حين يؤكد هؤلاء ببساطة أن شعبهم قد تراجع بسبب الحروب، والآن أصبح وضعه أسوأ. ففى شهر يونيو الماضى ضيقت الحكومة العراقية الخناق على 39 وسيطا إعلاميا وهددت مكاتب البعض بالإغلاق، وجاءت البلاد فى المرتبة 152 على مستوى العالم بالنسبة لحرية الصحافة (وفقا لتقرير منظمة مراسلون بلا حدود لسنة 2011/2012، أى تراجعت 22 مركزا عن العام الماضى). لقد تم وضع الديمقراطية فى الثلاجة لأن الدنيا حر فى بغداد، كما بينت إحدى الرسومات الساخرة التى نشرتها صحيفة محلية بعد الغزو الأمريكى.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved