فقر الخيال

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 6 أكتوبر 2018 - 10:55 م بتوقيت القاهرة

نسبت الإسكندرية للإسكندر الأكبر. وسميت بغداد على اسم قرية صغيرة كانت موجودة في هذا المكان بين دجلة والفرات، وقيل أيضا ضمن ما قيل إن معناها بالفارسية: باغ أي بستان، وداد: العطية، أي بستان العطية أو الرب. أما دمشق فمعناها باللغة الآرامية: الأرض المسقية أو المكان الوافر المياه، وبالسريانية واللاتينية: دومسكس، المشتقة منها كلمة دمشق، تعني المسك أو الرائحة الطيبة.
هكذا هي المدن مثل الأشخاص تحمل شيئا من أسمائها، فهي ترتبط عادة بشيء يميز موقعها أو نوع الشجر المنتشر فيها أو اسم القائد الذي شيدها أو لقب السكان الذين عمروها، مثل باريس التي أطلق عليها اسم من عاشوا على ضفاف نهر السين منذ القرن الثالث قبل الميلاد، وقيل لهم (Parisii ) أو(Civitas Parisiorum)، وتم اختصارها بمرور الوقت، في غضون العام 310 ميلاديا.

***

فكرت في أصول الأسماء التي تعرف المدن بها وأنا أطالع إعلانات المدن الجديدة المصرية التي ظلت بلا اسم مثل العاصمة الإدارية الجديدة، وقد تم الإعلان عن مسابقة للعثور على اسم مناسب لها نظير مكافأة قدرها مليون جنيه مصري، أو تلك التي اقتبست أسماء موجودة بالفعل مثل "المنصورة الجديدة" التي تطل على شاطئ جمصة. وينطبق ذلك أيضا على أحياء بعض هذه المدن تحت الإنشاء، فيحاول مشيدوها استنساخ أحياء عريقة أخرى مثل جاردن سيتي أو هليوبوليس، فـتأتي على هيئة تصميمات غريبة إلى حد ما، ليست على مستوى الاسم.
حالة إن دلت على شيء فتدل على أن هذه الأماكن الجديدة ستكون غالبا بدون ملامح، وعلى أننا نعاني من فقر شديد في الخيال، ما يتجلى في تخصصات عدة وأمور مختلفة من مناحي الحياة. نبطل المفعول السحري لخيال الأطفال بحكم تعليم غبي ومناهج معدومة الإبداع، فيكون نتاج ذلك مواطن مقولب وغير قادر على التفكير النقدي، سوى بعض من يشذوا عن القاعدة فيعانوا داخل مجتمعنا. موظفون لا يجدوا حلولا مبتكرة للمشكلات من كثرة ما كرروا الأعمال نفسها، تحت وطأة الروتين القاتل. وغالبا تكمن المشكلة في أن هؤلاء الأشخاص لا يدركون أن هنالك مشكلة، ولا يرون الفارق بينهم وبين غيرهم، ويظنون أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.

***

المجتمعات لا تتقدم بالعقل فقط، بل بكثير من الخيال، وهو ما تثبته العلاقة الطردية بين مؤشر الإبداع العالمي وحجم التقدم الاقتصادي والاجتماعي، فبدراسة أوضاع 139 دولة، خاصة فيما يتعلق بالمواهب والتكنولوجيا والتسامح، نلاحظ أن الدول ذات المؤشر الإبداعي العالي كانت أكثرها تقدما وعدالة اجتماعية وتنمية بشرية.
المبتكرون يهاجرون سنويا ليعيشوا وسط من يقدروهم. ونحن صرنا نعيش في بلد المسخ، بلد طارد لكل ما هو أصيل ومختلف، ولن تحل مشكلته اللوائح الإلكترونية في المدارس. أقابل معماريين ومصممين أسعد بلقائهم وبنماذج لبيوت فريدة بنوها ليسكنوا فيها، خارج المدينة في أحيان كثيرة، هربا منها ومن طغيانها وجبروتها. ثم أرى من حولي كيف يعاد تشكيل ذاكرة المدن التي عرفناها مرة بعد مرة، وكيف يمضي بها الزمن ويجور عليها أحيانا، وتتدخل عوامل وأسباب كثيرة ومؤثرة في ذلك. أستغرب كيف لا يستوعب من يشيد المدن أنها ليست مجرد أماكن وأشياء وأسماء وبشر، بل هي مستودع خيالات وتفاعل كل هؤلاء معا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved