أكتوبر الآخر

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 6 أكتوبر 2019 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

بقوة السلاح عبرت مصر قناة السويس فى أكتوبر (١٩٧٣)، وكان يفترض أن تعبر أى مشاعر لحقت هزيمة يونيو (1967)، غير أن النتائج السياسية ناقضت شجاعة المقاتلين.
كان الوجه الآخر لتبديد ثمار النصر فى أكتوبر هو تكريس الهزيمة فى يونيو.
ما هو متوافر ــ حتى الآن ــ شهادات لقادة عسكريين يروون وقائع كانوا طرفا فيها، يدافعون عن أنفسهم، أو يتهمون آخرين بالمسئولية.
حسب المثل الشائع فإن «الهزيمة يتيمة والنصر له ألف أب».
الشهادات المتوافرة ــ رغم أهمية بعضها ــ لا تؤسس لرواية مصرية موثقة وكاملة.
وثائق يونيو مودعة فى خزائنها، والخزائن عليها أقفال ومتاريس.
ليس من مصلحة مصر حجب ما تقصته لجنة برئاسة اللواء «حسن البدرى»، المؤرخ المعتمد للجيش المصرى بعد يونيو مباشرة عن أسباب الهزيمة.
تتوافر آلاف الوثائق عن يونيو وأسرارها غربية وإسرائيلية دون أن تكون هناك رواية مصرية واحدة لها صفة الرسمية.
الدول تنشر وثائقها السياسية والعسكرية بعد عدد معين من السنين لتضع الحقيقة أمام مواطنيها ــ أيا كانت مرارتها ــ حتى لا تتكرر أى أخطاء جرت فى الماضى.
الأمر نفسه نفتقده فى حربى «الاستنزاف» و«أكتوبر».
هناك شهادات ودراسات نشرت لكن الوثائق قضية أخرى.
للوثائق كلمة أخيرة تجيب عن كل الأسئلة: كيف هزمنا ولماذا؟ وكيف قاومنا وصمدنا حتى عبرنا الجسور تحت وابل من النيران؟ ثم كيف أجهضت النتائج السياسية لتضحيات الدماء التى بذلت؟
هناك فارق بين مراجعة التاريخ بالوثائق المثبتة لإدراك حقائقه وتصحيح الذاكرة العامة وبين تعميق الشعور بالهزيمة كقدر إغريقى لا يمكن الفكاك منه.
بلغة الوثائق يتأسس الاتفاق والاختلاف على قاعدة معلومات صلبة.
بعد يونيو أعيد بناء الجيش المصرى وفق المواصفات الحديثة، التى تعلى من شأن الكفاءة والاحتراف وتمنع الانشغال بالسياسة، وأسندت مسئوليته إلى نخبة من العسكريين الأكفاء فى القيادة العامة، كما فى جميع الأسلحة.
تصدر المشهد العسكرى المصرى أفضل ما فى البلد من كفاءات متاحة.
كانت الوطنية المصرية مستعدة أن تقدم كل ما لديها من طاقات عطاء ودم بإيمان حقيقى أن البلد يحارب معركة وجوده ومستقبله.
لم تكن مصادفة بعد أيام من الهزيمة أن تفرض قوات محدودة فى «رأس العش» كلمتها على الإسرائيليين وتوقع بهم خسائر فادحة فى لحظة انتشاء عسكرى.
جرت بطولات تقارب الأساطير فى ظروف شبه مستحيلة.
بهذه الروح تمكنت القوات المصرية من خوض حربى «الاستنزاف» و«أكتوبر»، وكان الجندى المصرى العادى بطلهما بلا منازع.
كان ذلك هو أكثر وجوه أكتوبر تعبيرا عن الوطنية المصرية وقدرتها فى أوقات المحن على اجتراح المعجزات.
كانت السنوات التى أعقبت الهزيمة أفضل سنوات العسكرية المصرية، وأفضل سنوات «جمال عبدالناصر»، بالنظر إلى حجم العطاء الذى بذل.
ورغم أية انتقادات جدية لـ«أنور السادات» يحسب له أنه تحمل مسئولية قرار الحرب فى أكتوبر.
بغض النظر عن أية مساجلات فى حجم النصر، فإن مصر كان يتعين عليها أن تطوى صفحة الهزيمة، غير أن ذلك لم يحدث عن سبق إصرار، كأننا لم نحارب ولم ننتصر، وكأن إسرائيل قوة لا تقهر والهزيمة قدر لا فكاك منه.
بين تحولات السياسة والانقلابات الاستراتيجية نشأت صناعة الهزيمة فى الوجدان العام، فـ«أكتوبر آخر الحروب»، و«لن نحارب بالنيابة عن الفلسطينيين والعرب لآخر جندى مصرى»، كما تردد على نطاق واسع فى الخطابين الإعلامى والسياسى.
جرى تسطيح قضية الصراع العربيــ الإسرائيلى، وقضية الأمن القومى المصرى الذى دافعت عنه قواتنا قبل أى شىء آخر.
أهدرت التضحيات الهائلة التى بذلت فى ميادين القتال، ونشأت طبقة جديدة وصفت فى البداية بـ«القطط السمان»، لتساند السلام مع إسرائيل.
استشعر جيل كامل وهب حياته لقضية تحرير بلاده بقوة السلاح الخديعة، فقد حارب من أجل حلم ليستيقظ على كابوس.
كان ذلك وجها آخر لأكتوبر نزع عن بطولاته جلال قضيتها وقداسة تضحياتها.
أفضل ما قيل فى وصف بطولات أكتوبر أن الإنسان المصرى العادى هو بطل الحرب، غير أن بطل أكتوبر لم يكن ــ من ناحية تدقيق المعانى والألفاظ ــ إنسانا عاديا، بل جيلا كاملا صهرته تجربة القتال، وصاغت منه تجربة فريدة.
الفارق واضح بين نسبة النصر إلى الإنسان العادى المجرد، أو إلى صفات إيجابية مطلقة فى الشخصية المصرية، وبين نسبته إلى جيل بعينه، وإلى وعى بعينه، وإلى بنى ثقافية وسياسية ونفسية بعينها.
إنه الفارق بين المطلق والتاريخ.
أغلب الذين قاتلوا فى (١٩٧٣) بعد ست سنوات فى الخنادق، أو فى معسكرات التدريب، أو فى مهمات قتالية أثناء حرب الاستنزاف، من خريجى الجامعات المصرية، الذين أتاحت مجانية التعليم الفرصة أمامهم لاكتساب معارف العصر.
جيل الحرب هو نفسه جيل الثورة ومجانية التعليم والحق فى الثروة الوطنية.
فرضت ضرورات تحديث القوات المسلحة فى أعقاب الهزيمة دفع جيل بأكمله من خريجى الجامعات إلى صفوف القتال، للتعامل مع أحدث التقنيات العسكرية فى ذلك الوقت.
المأساوى فى قصة هذا الجيل أنه أرجأ طموحاته وحياته إلى ما بعد انتهاء الحرب، غير أنه عندما عاد من ميادين القتال، وجد أن ما قاتل من أجله قد تبدد، وأن عليه دفع ثمن سياسات الانفتاح الاقتصادى التى دشنت عام (١٩٧٤) من مستقبله الاجتماعى والإنسانى.
ثم أن يرى بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب سياسات التطبيع مع العدو الذى انتظر طويلا فى الخنادق أن يواجهه.
لم تعد إسرائيل عدونا التاريخى.
فى نبوءة للأديب الراحل «محمود دياب» استبقت التطبيع مع إسرائيل أعلن استحالته فى مسرحيته «أرض لا تنبت الزهور».
لم يكن «السادات» قد زار الكنيست ولا وقعت اتفاقية «كامب ديفيد».
«إن الحب لا يقحم على قلوب الناس بزواج ملك من ملكة.. خذها حكمة من الزباء ولا تنسها أن أرضا ارتوت بالدم لا تنبت زهرة حب».
لم يكن «محمود دياب» يتنبأ بما قد يحدث من فراغ، حيث بدأت بعض المواقف والكتابات تدعو إلى تسوية ما تنهى الصراع الدامى وتدين السياسات التحررية التى اتبعتها مصر فى أوقات سابقة.
كان ذلك تنكرا لمعنى التضحيات الهائلة التى بذلت فى ميادين القتال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved