ما بين الطاقة والبيئة والعلم

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الخميس 6 أكتوبر 2022 - 6:50 م بتوقيت القاهرة

أصابت الحرب الروسية الأوكرانية العالم بصدمة شديدة، خاصة بعد أن منعت روسيا تصدير الغاز إلى أوروبا وصارت أوروبا تعد نفسها لشتاء بارد دون تدفئة لنقص حاد فى إنتاجها بسبب افتقار المصانع للغاز والبترول.
لم تكن هذه المرة الأولى التى يصاب فيها الغرب بالهلع لنقص البترول، فقد سبق ذلك أزمة السبعينيات حين أوقفت الدول العربية البترول عقب حرب 1973، فقفز سعر البرميل من ثلاثة دولارات إلى سبعين دولارا.
تكتلت الدول الغربية وكونت وكالة الطاقة الدولية International energy agency (IEA) سنة 1974 للحفاظ على مصالحها تجاه الدول المصدرة أعضاء منظمة الأوبك وبدأت نغمات سياسية فى الغرب، خاصة فى الولايات المتحدة، تتحدث عن أنهم أصبحوا رهائن للدول المصدرة للنفط مع التركيز على الدول العربية، وأن البترول صار كعب أخيل الحضارة الغربية، وبدأت محاولات حثيثة لتنويع مصادر الطاقة خاصة مع التنبه إلى الآثار المدمرة على البيئة الناجمة عن حرق الوقود الأحفورى وتآكل طبقة الأوزون، وكان الخيار الأول مع بزوغ عهد الذرة عقب الحرب العالمية الثانية، فأقيم أول مفاعل نووى تجارى لإنتاج الكهرباء فى مقاطعة Windscale فى بريطانيا فى عام 1954 وتلاه مفاعلshipping port فى ولاية بنسلفانيا فى الولايات المتحدة فى عام 1957 وسرعان ما انتشرت المفاعلات النووية فى أوروبا وأمريكا والاتحاد السوفيتى واليابان كمصدر للطاقة. كان الأمل عليها لأن تكون نظيفة وآمنة ولكن سرعان ما تحول الحلم إلى كابوس عندما اتضح خطورة النفايات النووية الناتجة عن المفاعلات وبعد الحوادث الجسيمة التى وقعت فى مفاعل تشرنوبل فى الاتحاد السوفيتى وThree Mile Island فى الولايات المتحدة ومفاعل فوكوشيما فى اليابان.
• • •
نشطت مع هذه الجهود تنمية توربينات الرياح لتسخير طاقة الرياح لخدمة الإنتاج، وأيضا أبحاث الطاقة الشمسية التى باتت تبشر بنتائج إيجابية بعد استخدام تقانات أبراج الملح المذاب لتخزين الحرارة بعد غروب الشمس وبعد اكتشاف خصائص مادة الـ Graphite التى تضيف خصائص مهمة للخلايا الشمسية إلا أن هذه التطورات تحدث فى مناخ يسيطر عليه مراكز القوى والضغوط للمنتفعين من صناعة البترول؛ إذ لا يساع المراقب أن يتساءل عن تناقض الموقف الأمريكى الذى يستمطر لعنات السماء على روسيا؛ لأنها منعت الغاز عن أوروبا فى الوقت الذى تفرض هى الحصار على بترول إيران وفنزويلا ودمرت إمكانات العراق وساهمت فى تدمير ليبيا وكلها دول هامة فى مجال البترول!
ومع كل التطورات الجارية فى البحث عن طاقة جديدة ومتجددة ونظيفة يظل الاندماج النووى الكأس المقدس Holy Grail فى مجال الطاقة، ويمثل فى مجال الطاقة ما مثله حجر الفلاسفة الذى يحول النحاس والرصاص إلى ذهب عند الخيميائيين فى القرون الوسطى.
ومنذ تفجير القنبلة الهيدروجينية الأولى فى اليوم الأول من نوفمبر عام 1952 التى أطلق عليها الاسم الحركى Ivy Mike والتى فجرتها الولايات المتحدة فى جزر مارشال بالمحيط الهادى وبلغت قوتها 10 ميجا طن مقارنة بقنبلة هيروشيما التى لم تتجاوز قوتها 15 كيلو طن، ما دفع العلماء إلى التفكير فى الطاقة الهائلة الناجمة عن الاندماج إذا أمكن ترويضها وتسخيرها لإنتاج الطاقة.
أكبر تحدٍ يواجه العاملين فى أبحاث الاندماج النووى هو الحرارة الهائلة المطلوبة لتحقيقه والتى تصل إلى 150 مليون درجة مئوية، ويثير ذلك التساؤل عن الوعاء القادر على استيعاب البلازما فائقة الحرارة والقادر على تحملها. جاءت الفكرة من مصدر غير متوقع من جندى بسيط لم ينل قدرا كبيرا من التعليم الرسمى اسمه Oleg Lavrentiev فى أوائل العشرينيات من عمره جند فى الجيش السوفيتى أثناء الحرب العالمية الثانية، ورغم بساطة تعليمه إلا أنه كان يقضى كل لحظة فراغ فى المكتبات العامة يقرأ الكتب العلمية. وفى سنة 1950 أرسل الجندى الشاب رسالة إلى قيادته بفكرة رأتها القيادة مبتكرة، فرفعتها إلى أكبر عالمين سوفيتيين فى الطبيعة النووية وهما Andrei Sakharov وIgor Tamm وكلاهما حصلا لاحقا على جائزة نوبل. واستحسن العالمان الكبيران فكرة الجندى البسيط وعملا على تطويرها، وتقوم الفكرة على احتواء البلازما ذات الحرارة الهائلة فى مجال مغناطيس قوى دون أن تلامس شيئا! وفى الوقت الذى عمل فيه العلماء فى الاتحاد السوفيتى على تحقيق الاندماج النووى كانت الأبحاث منشطة فى الغرب فى نفس المجال إلا أن ظروف الحرب الباردة والستار الحديدى المفروض على الاتحاد السوفيتى حال دون الاتصال أو التعاون العلمى بين علماء الطرفين إلا أن شغف العلماء بالعلم وسمو الهدف المنشود تخطى قيود العداء السياسى، وفى عام 1956 زار الزعيمان السوفيتيان نيكيتا خروتشوف ونيكولاى بولجانين بريطانيا مع وفد من العلماء السوفييت وتبادلوا مع نظائرهم البريطانيين نتائج الأبحاث التى قاموا لها.
وفى عام 1958 أطلق الرئيس أيزنهاور مبادرته «الذرة من أجل السلام» Atoms for peace وعقد فى سبتمبر فى نفس العام مؤتمر جينيف الذى تم فيه حوار علمى بناء فى مجال الاندماج النووى بين علماء الشرق والغرب. وفى عام 1968 بعث الاتحاد السوفيتى خمسة علماء من مركز Culham لأبحاث الاندماج النووى فى بريطانيا لزيارة منشآت أبحاث الاندماج النووى.
ومع مرور الوقت اتضح للجميع أن مشروع الاندماج النووى تكلفته ماديا وعلميا وبشريا تفوق دولة منفردة وفى نوفمبر 1985 اتفق الرئيسان الأمريكى رونالد ريجان والسوفيتى ميخائيل جورباتشوف على التعاون لإنشاء مفاعل تجريبى للاندماج النووى وسرعان ما انضمت للاتفاقية ــ التى صارت تعرف باسم international thermonuclear experimental reactor (ITER) ــ الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبى والصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية ودول أخرى منها كندا وأستراليا وسويسرا وتايلاند وكازخستان.
وفى عام 2013 بدأت المنظمة فى بناء المفاعل التجريبى القائم على الفكرة الأصلية التى قدمها الجندى الروسى أولج لافرنتييف وأطلق عليه اسم Tokomak واختير جنوب فرنسا مقرا له ووضعت له ميزانية تبلغ 35 مليار دولار من المقدر أن تتزايد مع الوقت. والتوكوماك جهاز يفوق الخيال العلمى بل لعله يفوق آفاق الخيال المطلق.
أساس الجهاز مغناطيس هائل يصل وزنه إلى ألف طن يولد قوة جذب مغناطيسية تبلغ 280 ألف مرة قدرة المجال المغناطيسى للأرض، ويبلغ طول ملفات الأسلاك الكهربائية المستخدمة فيه 100 ألف كيلومتر تكفى لرحلة من الأرض إلى القمر ثلاث مرات وتبرد الأسلاك لدرجة 4 درجات كالفن الموازية لـ 268 درجة مئوية تحت الصفر لتجعل الأسلاك وسيطا فائق التوصيل Super Conductor وهى أبرد درجة وصل إليها الإنسان على الأرض وذلك لخلق مجال مغناطيس يحتوى على 830 مترا مكعبا من البلازما التى تبلغ حرارتها 150 مليون درجة مئوية فتكون المفارقة التى تجعل جهاز التوكوماك يحتوى على أعلى حرارة استطاع أن يضعها الإنسان وأدنى برودة استطاع أن يصل لها!
• • •
من خلال قراءاتى لكتابة هذا المقال شعرت بانبهار هائل يفوق انبهار الطفولة بأساطير ألف ليلة وليلة الخرافية كما شعرت بخوف من هول المسافة التى تفصل بيننا وبين العلم فى قمة أدائه، وشعرت بغضبه لغياب إعلامنا العلمى المفروض أن يتابع لنا هذه التطورات الهائلة ونحن مغيبون عنها.
وأطرح أخيرا تساؤلا بالنظر إلى أن منظمة ITER وبناء جهاز التوكوماك كان الدافع لهما مواجهة أزمة البترول ومواجهة الآثار البيئية لحرق الوقود الأحفورى فهل يكون من المناسب أن يطرح فى قمة COP27 التى تعقد فى شرم الشيخ اقتراح بفتح باب المشاركة واكتساب الخبرة لعلماء العالم الثالث خاصة العرب فى هذا المشروع العلمى الطموح خاصة وأن العرب لديهم قدرة على المساهمة فى التمويل إذا قدم الاقتراح فى إطار عربى مشترك؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved