التيارات الدافقة من المعلومات عبر مختلف الوسائط الحديثة، تسببت فى تعقيد عمليات تصنيفها وتحليلها واتخاذ قرارات استنادا إليها، وهو ما يعزز أهمية مراكز الدراسات، واستطلاعات الرأى، ومؤسسات التصنيف الائتمانى، والتقارير المقارنة، والمؤشرات الصادرة عن منظمات دولية تحظى إصداراتها بمصداقية عابرة للقارات.
المؤشرات الدولية تهضم عشرات المتغيرات، وملايين المشاهدات من هنا وهناك، ثم تقوم باختزالها فى عدد محدود من المعلومات، تعرضها على المتلقى بصورة مبسطة تمكنه من اتخاذ قرارات مهمة بعد الاطمئنان إلى استيعابه لمدلولات تلك الأرقام. قرارات الاستثمار والانتقال للعمل أو الإقامة فى بلد ما أو السياحة فيه كلها أصبحت مرهونة بعدد من المؤشرات الدولية التى تفاضل بين معظم دول العالم، وفقا لمنهجيات متعددة، تحصى باختصار نقاط القوة والضعف فى تلك الدول، وفق تحليل مقارن يمتد عبر سلاسل زمنية، تسمح للباحث ومتخذ القرار بالتعرف على تطور أداء المقصد الاستثمارى أو السياحى.. خلال فترة زمنية محددة بالمقارنة بسائر الدول التى يشملها التحليل.
فى هذا السياق تناولت فى مقال الأسبوع الماضى أحد التقارير الدولية المهمة، وهو «التقرير العالمى للتنافسية الاستثمارية 2017/2018» الذى حاولت قراءته بعين الباحث المختص، وفى مقال اليوم أسعى إلى قراءة «تقرير ممارسة أنشطة الأعمال» الصادر أيضا عن مجموعة البنك الدولى، والذى يعد من أبرز التقارير التى تساعد الوحدات الاستثمارية والتمويلية على توجيه رءوس الأموال شرقا وغربا، علما بأن الحكومة المصرية باتت تولى أهمية خاصة بتلك التقارير، كما يتضح من تصريحات أعضاء الحكومة.
***
تقرير ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2018 يرصد أداء الدولة ومناخ الأعمال فيها عبر عدد من المؤشرات خلال الفترة الممتدة من يوليو 2016 وحتى نهاية يونيو 2017. من ثم فقد تقاطع المؤشر فى إصداره الأخير مع نحو ثمانية أشهر من قرار تحرير سعر الصرف، الذى أصدرته مصر فى الأسبوع الأول من نوفمبر 2016. وبالتالى يمكن للمؤشر أن يجيب عن كثير من التساؤلات الحائرة فى وسائل الإعلام هذه الأيام، عن أثر قرار تعويم الجنيه المصرى على مناخ أداء الأعمال فى مصر بعد مرور عام على القرار.
مؤشر أداء الأعمال صدر عنه حتى اليوم 15 تقريرا سنويا، تهدف إلى تحرى الإجراءات التنظيمية التى من شأنها تحسين نشاط الأعمال، وتلك التى تقيده خلال العام. التقارير تقدم مؤشرات كمية حول تنظيم وحماية حقوق الملكية فى نحو 190 دولة، وتقيس تلك المؤشرات أثر النواحى التنظيمية المشار إليها على عدد من المتغيرات المهمة مثل: بداية الأعمال، التعامل مع تراخيص البناء، الحصول على الكهرباء، تسجيل الملكية، الحصول على الائتمان، حماية حقوق الأقليات من المستثمرين.
بتتبع تقارير ممارسة أنشطة الأعمال خلال إصداراتها لأعوام 2016 و 2017 و 2018 يتضح لنا تحسن أداء مصر بشكل عام لتصعد من المركز 133 (من بين 189 دولة) فى تقرير 2016 إلى المركز 122 (من بين 190 دولة) فى تقرير عام 2017، كذلك يتضح تراجع مصر إلى المركز 128 (من بين 190 دولة) فى تقرير عام 2018 مع ملاحظة تحسن طفيف فى أداء مؤشرات مصر الفرعية يقدر بنحو 0.1 على الرغم من تراجعها فى الترتيب العام المقارن.
الملفت فى المؤشرات الفرعية للتقرير أن أسوأ أداء مقارن لمصر تمثل عبر السنوات الثلاث فى: «مؤشرات التجارة عبر الحدود» التى تدهور ترتيب مصر وفقا لمؤشراتها الفرعية من المركز 157 إلى المركز 168 ثم إلى المركز 170! تتضمن المؤشرات الفرعية للتجارة عبر الحدود، الوقت والتكاليف المستلزمة لاستخراج الوثائق والتراخيص المطلوبة للتصدير والاستيراد.
كذلك كان المكون الخاص بإلزام العقود «enforcing contracts» من أسوأ المؤشرات أداء بالنسبة لمصر عبر السنوات الثلاث. تقيس المؤشرات الفرعية لهذا المكون: الوقت والتكلفة وجودة إجراءات التقاضى فيما يتعلق بإلزامية العقود المبرمة. تدهور ترتيب مصر من المركز 155 إلى المركز 162 ثم تحسن قليلا فى التقرير الأخير إلى المركز 160 (تستغرق عملية إلزام العقود فى مصر أكثر من ألف يوم!).
فيما يخص سداد الضرائب، تراجعت مصر عبر مؤشرات «عدد مرات السداد خلال العام» و«الوقت المستلزم للسداد» و«نسبة الضرائب إلى الأرباح» من المركز 151 إلى المركز 162 ثم إلى المركز 167! نقرأ هذا التدهور المستمر فى سياق متطلبات الإصلاح الضريبى التى التزمت بها الحكومة المصرية فى برنامج الإصلاح الأخير.
***
لكن أكثر المؤشرات الفرعية غرابة وأكثرها دلالة على انفصال وزارة الاستثمار عن واقع أزمة الاستثمار فى مصر هو التحسن الكبير فى مؤشر بداية أنشطة الأعمال من المركز 73 إلى المركز 39! ثم انتكاسة ترتيب مصر بصورة مربكة إلى المركز 103 فى التقرير الأخير! الشاهد أن أزمة الاستثمار لم تكن مع القوانين والتشريعات (التى ساهم التأخر والارتباك فى تعديلها فى مضاعفة حدة الأزمة)، لكن أزمتها الحقيقية مع الإجراءات والتعقيدات كما سبق أن أكدنا عبر العديد من وسائل الإعلام. ففى التقرير الأخير زاد عدد الإجراءات وعدد الأيام التى يتطلبها بدء النشاط! وهو أمر غريب لا يتسق مع تصريحات الوزارة وبياناتها الصادرة فى هذا الخصوص، علما بأن التقرير يصدر بالتباحث مع عدد من العاملين فى الهيئة العامة للاستثمار، والذين تقدم لهم مصدرو التقرير بالشكر!. هذا التراجع يخصم الكثير أيضا من ثمار قرار التعويم، الذى شعر المواطن بضريبته ولم يغتنم ثماره المرجوة على صعيد مؤشرات تحسن التجارة الخارجية (الأحجام لا القيم والفواتير) ولا بدء نشاط الأعمال والحصول على الائتمان (خاصة مع ارتفاع أسعار الفائدة)!. حتى مكون التخارج من أزمات التعثر شهد تراجعا لمصر من المركز 109 فى تقرير عام 2017 إلى 115 فى التقرير الحالى! علما بأن مؤشرات قياس هذا المكون تتمثل فى الوقت المستلزم (يستغرق 2,5 سنة فى التقرير الأخير) والتكاليف، ومعدل الاسترداد، وقوة الإطار العام الذى تتم من خلاله عمليات حل أزمات التعثر.
تراجع ترتيب مصر أيضا من حيث سهولة وتكلفة تسجيل الملكيات، وكذلك سهولة التعامل مع تراخيص البناء (ولكن بدرجة أقل نظرا للتحسن الكبير فى المؤشر الأخير خلال تقرير العام الماضى).
***
من أبرز المؤشرات الشاهدة على تحسن أداء مصر، هو المتعلق بالحصول على الكهرباء من أجل ممارسة الأعمال. تقدمت مصر من المركز 144 إلى المركز 88، ثم تراجعت قليلا إلى المركز 89. التحسن كان بفضل تخفيض عدد الأيام المطلوبة للحصول على الكهرباء لبدء النشاط، لكن تكلفة الحصول عليها ارتفعت بشكل كبير من 244,9 (كنسبة من نصيب الفرد من الدخل القومى) فى تقرير عام 2017 إلى 324,7% فى التقرير الأخير الذى شهد التعويم.
كذلك كان مؤشر حماية الأقليات الاستثمارية من أفضل المؤشرات الفرعية أداء، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق، نتيجة لوتيرة التحسن المستمرة، والتى صعدت بمصر من المركز 122 إلى المركز 114 ثم إلى المركز 81. ويرجع الفضل فى هذا الأداء إلى تحسين المناخ التنظيمى الحاكم للقطاع المالى غير المصرفى خلال سنوات المقارنة. هذا فى الوقت الذى نشهد خلاله تراجعا مستمرا فى ترتيب مصر وفقا لمؤشرات الحصول على الائتمان، من المركز 79 إلى المركز 82 ثم إلى المركز 90، وهو ما يعكس إلى حد كبير أداء القطاع المالى المصرفى فيما يخص سهولة منح الائتمان.
تشجيع الاستثمار يحتاج إلى بيئة متكاملة محفزة وميسرة لتدفق الاستثمارات. الإطار التشريعى يظل مكونا واحدا، لكن الإطار التنظيمى والإصلاح المؤسسى وإدارة المخاطر التى أفردنا لها مساحات واسعة سابقا (أحدثها مقال الثلاثاء الماضى) هى أبرز ما ينبغى التعامل معه لتحسين مناخ الاستثمار، وتحقيق عائدات إيجابية للقرارات الاقتصادية الصعبة، مع تخفيض تداعياتها السلبية إلى أدنى المستويات الممكنة.
التقارير والمؤشرات الدولية ليست بالضرورة متناهية الدقة، وهى بعد دالة فى عوامل كثيرة من ضمنها حسن التعاون مع الجهات المصدرة، والذكاء فى تلبية متطلباتهم.. لكنها تظل مصدرا مهما لصناعة قرارات الاستثمار فى هذا العصر المزدحم بالبيانات التى يصاحبها (ولو بالمنطق الإحصائى المجرد) الكثير من التشويش.