من الظلمات إلى النور 6ــ ثرثرة ولا فقه

جمال قطب
جمال قطب

آخر تحديث: الخميس 6 ديسمبر 2018 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

ــ1ــ
((كتاب أنْزلْناه إليْك لتخْرج الناس من الظلمات إلى النور بإذْن ربهمْ إلىٰ صراط الْعزيز الْحميد) ).. ومن النور القرآنى يتعلم الناس أوزان الكلام، فمما ينطق البعض ما يكون «لهو الحديث»، وينطق البعض «ما لا يرضى من القول» وآخرون ينطقون «زخرف القول»، وغيرهم ينطقون «قول الزور» وآخرون ينطقون «لحن القول».. ونجد «القول المختلف». ولا شك أن تلك الأنواع الساقطة من القول غير ما جاء به «نور القرآن» من «قول الحق»، و«قول المعروف» و«القول الطيب» و«القول الكريم» و«القول السديد» إلخ، فليس كل ما يخرج من الأفواه كلاما مفيدا.
وإذا تبينت الفارق بين أنواع القول السابق الإشارة إليها فاعلم أن كل ذلك نماذج من القول العام فى إطار حسن الأدب أو سوء الأدب. لكن ميدان العلم ولغته يضم أنواعا أخرى من القول مثل «التذكر» و«التفكر» و«التدبر» و«التفقه» إلخ. فلا يحسب على الفكر ولا الفقه تلك الثرثرة التى يتشدق بها البعض بزعم أن عبثهم هذا اجتهاد أو تفكر، أو يبالغ أحدهم فيصف ثرثرته بأنها فقه.
ــ2ــ
فقد تعلمنا من القرآن الكريم أن نفرق بين مستويات القول العلمى: بين التذكر والتفكر والتدبر ثم التبين والتبصر والفهم ثم الفقه. فمرتبة «الفقه» فى أعلى مراتب القول كما يبين القرآن الكريم.
ــ3ــ
فقد جاءت الايات 78 ــ 79 من سورة الانبياء تعلمنا هذا المستوى الأخير: ((وداوود وسليْمان إذْ يحْكمان فى الْحرْث إذْ نفشتْ فيه غنم الْقوْم وكنا لحكْمهمْ شاهدين* ففهمْناها سليْمان وكلا آتيْنا حكْما وعلْما وسخرْنا مع داوود الْجبال يسبحْن والطيْر وكنا فاعلين) ). وقد توافق المفسرون على خلاصة تلك القضية: فقد غفل أحد رعاة الغنم عن غنمه فنزل الغنم زرع رجل آخر فأتلفه. وعرضت القضية على نبى الله داود عليه السلام فحكم بتعويض صاحب الزرع بحصوله على جميع الغنم الذى نزل الحقل فأتلفه. وهذا حكم تأديبى رآه نبى الله داود ضروريا لتأديب الراعى الذى غفل عن غنمه فأتلف الزرع كما لو كان قد غفل عن غنمه فأكله الذئب، أو سقط من حافة الجبل، أو سار إلى مكان لا ماء فيه.. فحكم نبى الله داود حكم تأديبى رادع لكل راع يغفل عن غنمه فجزاؤه حرمانه من هذه الوظيفة. وهكذا شاع الدرس وتعلم الناس واجبات الراعى قبل البحث عن تعويض المجنى عليه. ثم عرض الراعى أمره وندم واعتذر عن غفلته وجهله لنبى الله سليمان عليه السلام. فأخرج القضية (فى قضاء الاستئناف) من نطاق «المسؤلية التقصيرية» إلى نطاق «تعويض الضرر». فجاء حكم سليمان موضحا هذا الفرق بين النظرتين حيث رأى عليه السلام: الغنم رأسمال وله ريع (عائد) هو الصوف واللبن والنتاج. والزرع المتلف ريع (عائد)
ورأسماله هو الأرض. وما دام الضرر قد ثبت فيكون التعويض بالمثل: رأسمال يعوض رأسمالا، والريع يعوض الريع، وعلى هذا يتم ما يلى: يترك الراعى غنمه وديعة عند صاحب الارض ينتفع بأصوافها وألبانها ونتاجها، وفى نفس الوقت يتولى الراعى إعادة زراعة الأرض حتى يعود الزرع كما كان.. هذه هى القضية وانظر إلى تعبيرات القرآن عنها ترى ما يلى: إن حكم داود حكم شرعى صائب شهده الله جل جلاله ((وكنا لحكْمهمْ شاهدين) ) وكذلك حكم سليمان. لكن التأديب مسئولية الحاكم، وإحقاق الحق مسئولية القضاء فيقول تعالى ((..ففهمْناها سليْمان..) )، وحتى لا يضل المتسرعون وأصحاب الأهواء يبين القرآن ((وكلا آتيْنا حكْما وعلْما) ).
ــ4ــ
فحكم نبى الله داود وعلمه يشبه ((ولله الْمثل الْأعْلىٰ)) حكم التأديب على التقصير، أما حكم نبى الله سليمان وعلمه فيشبه «حكم الإلزام بتعويض الضرر» وكلاهما حكم شرعى صادر من جهة اختصاص لا معقب عليها ((وكلا آتيْنا حكْما وعلْما))، فهذا هو موضع التعبير القرآنى ((..ففهمْناها سليْمان..))، ففهم الحقيقة الواقعة فهما مجردا عن الدوافع والأسباب هو ما سماه القرآن «فهما».. وهذا الفهم يحصل من تفكيك عناصر المشكلة، ثم تمييز الأصل من الفرع، ثم تمييز الثابت من المتغير ثم النظر فى إعادة كل شىء إلى أصله.. فهذا هو الفهم.. وهو أول درجات الفقه..
ــ5ــ
فهل يتصور المتشدقون بزخزف القول ويزعمون أن ذلك «الباطل» الذى يخرج من أفواههم هو فقه... أى فقه هذا الذى يصادم العدل الإلهى ويخيل على الناس ــ دون أن يدرى ــ أنه يستطيع أن يغير «فريضة الله» ((فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما))، وأن يعبث بوصية الله ((وصية من الله والله عليم حليم)).. ((فمال هٰؤلاء الْقوْم لا يكادون يفْقهون حديثا)).

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved