البحث عن صلاح الموجى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 7 يناير 2018 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

القصة بكل مشاهدها وتناقضاتها تراجيدية حتى لا تكاد تصدق وشخصية بطلها أضفت عليها ـ من فرط التشهير المتعمد ـ شيئا يقارب الأسطورة.
لم يكن «صلاح الموجى» بتاريخه الجنائى مرشحا ـ وفق أى معايير طبيعية ـ لهذا القدر من الاستعداد للتضحية بحياته لمنع إرهابى مسلح وجريح من قتل ضحايا آخرين أمام كنيسة «مار مينا» قبل احتفالات أعياد الميلاد.
لماذا خاطر بحياته، وهو لا يعرف إذا ما كان الإرهابى الجريح يرتدى حزاما ناسفا أم لا، والبندقية الآلية مازالت فى يده؟
ثمة شىء إنسانى عميق دعاه أن يغادر سريره فى منزل قريب، عندما سمع أصوات الرصاص تدوى فى المكان ونداءات الاستغاثة ترتفع من على مئذنة مسجد لإنقاذ الأقباط المحاصرين داخل كنيستهم.
كأى قصة تراجيدية وجد نفسه فى لحظة أمام قدره، وقف على ناصية يتأهب فرصة سانحة.
عندما سقط الإرهابى جريحا قطع الطريق إليه فى قفزات متتالية، نزع سلاحه وجرده من قنبلة بدائية كانت فى حوزته.
إلى هنا تنسجم القصة إلى حد كبير مع قصص أخرى مشابهة لمواطنين عاديين يهرعون للنجدة بدوافع الشهامة والمساعدة فى لحظة خطر.
فى مشهد القبض على الإرهابى، الذى التقطت تفاصيله كاميرات المحمول، بدا لافتا أن عشرات المواطنين هرعوا جريا خلف «الموجى» إلى حيث يمثل الخطر مسلحا.
ذلك النوع من السلوك تلقائى ومتكرر ويمكنك ببساطة أن تلحظه فى أعقاب الأعمال الإرهابية وقبل استبيان إذا ما كان الخطر قد زال أم لا.
ما التفسير الاجتماعى؟
السؤال بلا إجابة ــ حتى الآن ــ تستند لبحوث ميدانية، أو دراسات معمقة.
حالة «الموجى» نموذجية فى البحث والتقصى.
نتحدث كثيرا عن الدور الحاسم، الذى يمكن أن يلعبه الظهير الشعبى فى الحرب مع الإرهاب، دون أن يكون واضحا: ماذا نقصد بالضبط، ولا كيف، ولا بأى شروط يشتد عوده؟
أسوأ ما فى قصة «الموجى» أن هناك أطرافا ضايقتها الشعبية التى حازها والبطولة التى أسبغت عليه والتكريم الذى ناله من وزير الداخلية، خشية أن تتهم بالتقصير فى الحادث الإرهابى، وأوجه التقصير عديدة بذات قدر التضحيات التى بذلتها قوة التأمين.
جرى تسريب أنصاف معلومات عن أن البطل المفترض محض مسجل خطر.
فهو قد سبق اتهامه فى أربع قضايا جنائية بين عامى (١٩٩٢) و(٢٠٠٧) بتهم تتراوح بين المشاجرات والاتجار بالمخدرات، لكنه حصل فيها جميعا على براءات من المحاكم التى مثل أمامها.
إعلان نصف الحقيقة وإخفاء نصفها الآخر جريمة أخلاقية وتشهير متعمد بمواطن كل ذنبه أنه واجه الموت بشجاعة لإنقاذ أبرياء من رصاص الإرهاب.
بافتراض أنه مسجل خطر فذلك يضيف إليه ولا يسحب من رصيد بطولته التى أبداها دون أن يتوقع شكرا أو تكريما.
أحيانا ننسى أن بعض الأساطير الإنسانية تنسب لرجال شجعان وطائشين لهم تاريخ إجرامى.
فى الفلكلور البريطانى تبرز شخصية «روبن هود»، وهو قاطع طريق، ماهر فى رشق السهام وله سجل إجرامى طويل، غير أن المخيلة الشعبية فى القرون الوسطى أضفت عليه طابعا أسطوريا.
وقد جمعت شخصيته الملحمية صفات متناقضة، فهو لص خارج عن القانون، لكنه مهذب وعادل يأخذ من الأغنياء ليعطى الفقراء ويقاوم الظلم والطغيان بشجاعة لا تغلب.
رسم الشخصية على هذا النحو نوع من التمرد على سطوة الطبقات الحاكمة وما ترتكبه من مظالم، أو ربما نوع من التمنى أن يمتلك الناس العاديون نفس الشجاعة لاسترداد الحقوق المسلوبة.
وفى الملاحم المصرية تتبدى شخصية «أدهم الشرقاوى» كبطل شعبى يقاوم الاحتلال والأعيان وينتصر للضعفاء والمسحوقين، رغم أنه قاطع طريق.
هناك شىء من التشابه بين الملحمتين فى بيئتين مختلفتين وعصور متباعدة.
حالة «الموجى» لا علاقة لها بأى مخيلة شعبية، فهو رجل شاهد بطولته الناس على شبكات التواصل الاجتماعى، له أخطاء فادحة فى مرحلة من حياته استقام بعدها واستقرت أحواله متمتعا بمحبة تلاميذ المدرسة الخاصة التى يعمل سائقا فيها ــ وفق شهادات مصدقة.
بطولته هى بطولة المواطن العادى، الذى يكتشف نفسه فى لحظة الخطر ــ كأنه عاش عمره كله من أجل هذه اللحظة بالذات.
أحيانا ننكر تاريخنا الفعلى لا الافتراضى، الذى شهد بطولات لرجال حولهم ظلال وشكوك.
وقد سجل المفكر الفرنسى «فرانز فانون» فى دراسة عن سيسولوجية الثورة الجزائرية بعد خمس سنوات من انطلاقها، ما جرى من تحولات إنسانية ودراماتيكية لشخصيات لها ماض جنائى باتت من أيقونات الثورة أمام تحدى الموت، دفاعا عن عروبة الجزائر واستقلالها.
وفى مصر كانت ظاهرة لافتة أن معدلات الجرائم الجنائية انخفضت بصورة كبيرة أثناء الحروب التى خاضتها أعوام (١٩٥٦) و(١٩٦٧) و(١٩٧٣).
رغم ذلك كله ليس من حق أحد اتهام مواطن بما برأته منه المحاكم، ولا من حق أى جهة أن تدفع رجلا عاديا بالتسريبات المتعمدة أن يسأل نفسه ويسأل الآخرين: «لماذا؟»، أو أن يردد كأنه يكلم نفسه: «الكلام ده حصل من فترة طويلة وماشيين فى حالنا من زمان».
البحث عن إجابة لسؤاله يعنى مصر كلها، وهذا ما يستحق التحقيق فيه والحساب عليه.
لا يمكن كسب الحرب على الإرهاب بمثل هذه العقلية التى سربت أنصاف معلومات وشهرت ببطولة المواطن العادى واستعداده للوقوف مع أمنه فى خندق واحد.
هناك شبه فى العمق، لا فى التفاصيل، بين شخصيتى «صلاح الموجى» و«سعيد مهران» فى رائعة «نجيب محفوظ» «اللص والكلاب»، فكلاهما ضحية ظروفه ونبله ظاهر رغم الظلال الكثيفة.
الأول، وجد نفسه فى لحظة تضحية بالحياة من أجل الآخرين، بعضهم احتفى بالمعنى وبعضهم شهر به.
والثانى، غادر ماضيه منتسبا للمظلومين بقوة الأفكار، لكنه صدم بأن «رءوف علوان» الذى أرشده إلى هداية الفكر والسلوك محض صحافى انتهازى ولص مستجد.
من هو «رءوف علوان» فى القصة الجديدة؟
باليقين فهو ليس رجل بعينه وإنما هو نوع من التفكير ينتسب إلى العوالم المظلمة، التى لا تريد لهذا البلد أن يكشف عن قوته الكامنة وأبطاله من الناس العاديين.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved