كل سنة وانت طيب «أمسيحي آساحبي»

كريم البكري
كريم البكري

آخر تحديث: الإثنين 7 يناير 2019 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

الكلمة الطيبة صدقة، وما أروعها إذا كانت طيبة صادقة، فالصدق له مفعول السحر، يعيد الحياة للقلوب البائسة كما ماء المطر الذي يتسلل للأرض اليابسة حامًلًا معه آمال الحياة مجددًا. الكلمة الطيبة تعيد للوجوه التبسم وتدعوها للتغلب على المصاعب والهموم، تعطي أملًا في واقع مرير تعيشه وتشهده يوميًا، تجعلك قادرًا على رسم غدً أفضل حتمًا تطمح له.. كل هذا بفضل الكلمة الطيبة.

يقول عبدالرحمن الشرقاوي: «الكلمة نور وبعض الكلمات قبور»، ويحفل التاريخ بالكلمات المُنيرة المستنيرة التي فتحت أمام أصحابها آفاقًا للإبداع والتقدم، وكانت بمثابة سُلم صعدوا عليه حتى وصلوا إلى المجد، وبكل أسف واقعنا اليوم يفتقد هذا النوع من الكلمات، بل على العكس هو أيضًا يمتلئ بكلمات القبور التي قد يكون تأثيرها أفدح من الرصاص وأقسى من السياط.

اطلق العنان لذاكرتك عزيزي القارئ، وتذكر كل الكلمات التحريضية التي بثت الكراهية في أذنك، تَنَمُر من هذا أو تهكم من ذاك أو شائعة كاذبة أطلقها أحدهم، وربما التهديد الأكبر يأتي عن كلمات القبور المختبئة خلف ستار الدين.

في نوفمبر الماضي صادفت كلمة طيبة كانت تستحق الإشادة والتوثيق، منشور قرأته عبر موقع فيسبوك يحتوي على تهنئة للمسلمين بمناسبة المولد النبوي الكريم، وقد قال صاحبه: «كل سنة وأنتم طيبين.. سلم على جارك وصاحبك المسلم وخد منه حلاوة المولد»، وفي الحقيقة شعار «كل سنة وانت طيب» تم ابتذاله واستهلاكه كثيرًا في تعاملاتنا اليومية، ولكن حينما تأتي التهنئة من صفحة مسيحية بالأساس تخاطب الشعب المسيحي.. يصبح لها مذاقًا أكثر صدقًا، وأسمى قيمة، وأعلى مكانة.

«آمسيحي أساحبي».. صفحة ساخرة على غرار صفحة الكوميكس الشهيرة «أساحبي»، ولكن الأولى خاطبت المسيحيين بشكل خاص وكل من له قلب بشكل عام، فهي اعتمدت على نشر نوع الفنون الكوميدية المعروف بـ«الكوميكس» ولكن بالتخصص في الشأن المسيحي، ففريق العمل يُعرِّف الصفحة كـ«أول صفحة شبابية ساخرة تعبر عن الشباب القبطي»، ولكنهم في الحقيقة يعبرون عن الصورة التي نطمح لها في مجتمعنا ونتمنى أن تسود.

300 ألف شخص أعجبوا بهذه الصفحة والعدد في تزايد مستمر، وربما النجاح الذي حققته جاء بسبب السجيّة البسيطة النقية لفريق العمل، فالأدمن حقًا يتحدث كإنسان أولًا قبل أن يكون مسيحي الديانة، مثلما يتجاهل التابوهات الدينية التي يفرضها المتعصبون من رجال الدين؛ هؤلاء الذين يُحرّمُون التحدث بأي شيء غير مألوف أو عن طريق وسيلة غير معتادة.

في هذه الصفحة ستلتمس معاناة الشباب المسيحي في الصيام، وصعوبة الاستيقاظ مبكرًا لحضور القداس، فضلا عن أنشطتهم الاجتماعية والتربوية في خدمات الكنيسة.

الصفحة أيضًا تلعب دورًا مهمًا في فك شفرات الدين، فنحن للأسف نعيش في مجتمع من قطبين، والتباعد الفكري بين قطبي الأمة من المسلمين والمسيحيين خلق فرصة سانحة لكل مروّجي الشائعات والأكاذيب حتى يمارسوا هوايتهم في تضليل الرأي العام وتشويه أصحاب الدين الآخر؛ فعلى سبيل المثال أنا سمعت كمسلم إن «المسيحيين لابد أن يمر أكلهم وشربهم على رجال الدين والقساوسة أولًا – صيامهم في قمة السهولة ويحق لهم الإفطار في أي وقت.. إلخ»، وبنفس القياس أيضًا قال لي أحد أصدقائي المسيحيين إنه سمع أننا كمسلمين «نستحل بيع الأطفال والنساء – نعدد الزوجات بلا سبب أو ظرف – نرغب في فرض الجزية عليهم كأقباط.. إلخ»، كل ما سبق بالإضاغة إلى العديد من الشائعات الكاذبة التي من شأنها أن تعمق الجراح الموقوتة بيننا.
ولكن ما تفعله الصفحة يُصلح ما أفسده هؤلاء، فمع كل حادث إرهابي ينال من المسيحيين ويعكر عليهم صفو أعيادهم تخرج الصفحة لتؤكد أن الإسلام ليس متهمًا وأن المسلمين ليسوا من يرفعون السلاح، ولكنهم يحثونا دومًا على مواجهة التطرف والتعصب حتى إذا كان على ألسنة بعض المتطرفين من الشيوخ ورجال الدين.

الصفحة تخرج دومًا لتهنئة المسلمين في أعيادهم بالكوميكس والأساليب المبتكرة، لتشعر وكأنك تتحدث مع صديقك المقرب الذي لا يرغب في شيء سوى في أن يراك مبتسمًا وتعيش بأحسن حال.

"أمسيحي أساحبي".. هي أشبه بصرخة تنوير في نفق معتم من الجهل والتعصب والفتنة، وصوت فريق عملها المسيحي لا ينفصل عن كل الأصوات الأخرى التي تواجه القُبح والكراهية، ومما لا شك فيه أن كل شخص يتحمل نفس مسؤولية الصفحة، فدعونا جميعًا نحترم الاختلاف، ونراعي الإنسانية في تعاملاتنا المتبادلة، ونقف في وجه التعصب والتطرف، ولا نستسلم للأصوات الخبيثة التي أدمنت التكفير وهجرت التفكير.

ومثلما حظيت كشخص مسلم بكلمات طيبة عديدة عبر هذه الصفحة بشكل خاص، وأصدقائي وزملائي المسيحيين بشكل عام، يجب الآن أن أتذكرهم هم أيضًا بنصيب من الكلمات الطيبة التي يستحقونها عن جدارة؛ فتحية إلى مسيحيي مصر، الذين تحملوا الكثير من التجاوز والتطاول ورغم ذلك لم يخلطوا الحابل بالنابل أو الطيب بالخبيث، بل ظلوا يواجهون الإرهاب بالصلاة، والشر بالخير، والشائعات الكاذبة بالتنوير، والكراهية بالمحبة.

تحية إلى مسيحيي مصر؛ الذين رفضوا وصفهم بـ«الأقلية» وظلوا متمسكين بوطنيتهم رغم كل أبواق التعنت التي طالبتهم بالهجرة من وترك مصر.
تحية إلى مسيحيي مصر؛ الذين رفضوا الاستقواء بالغرب أو طلب اللجوء الديني، بل انضموا إلى صفوف الوطن بجوار أشقائهم من المسلمين ليثبتوا أن مصر وطن يتسع لنا جميعًا، ولن يلفظ سوى المُحرضين.
تحية إلى مسيحيي مصر؛ الذين استمدوا قوتهم من كل هجوم إرهابي استهدفهم، بل خرجوا من كل حادث أقوى مما كانوا، فرمز الوطنية الشامخ الذي جسده المسيحيون لن يركع أو ينحني أمام طلقات الرصاص أو أصوات القنابل.
بكل الحب.. وبمنتهى الصدق.. ورغمًا عن الإرهاب والتحريض والتكفير والفتاوى المتعصبة الخاطئة؛ كل عام وكل مسيحيي مصر بخير، كل عام وهم يقدمون لنا درسًا جديدًا في الوطنية والمحبة. كل سنة وانت طيب «أمسيحي آساحبي».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved