المواطنة فى الميزان

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الإثنين 7 يناير 2019 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

نحن فيما يمكن تسميته بأسبوع المواطنة.
فى مثل هذا الوقت من كل عام، وتزامنا مع الاحتفال بميلاد السيد المسيح، تتجدد مظاهر التعبير عن تمسك الدولة وكل مؤسساتها بالمواطنة وبالوحدة الوطنية. وهذا العام لم يخرج عن القاعدة بل زاد عنها بأن تضمن افتتاح الكاتدرائية والمسجد الجديدين بالعاصمة الادارية، وتبادل كلمتى التهنئة من فضيلة شيخ الازهر ومن نيافة بطريرك الكنيسة الارثوذكسية، كما جاء حضور السيد رئيس الجمهورية قداس عيد الميلاد ليتوج الاحتفال ويؤكد التزامه بحماية النسيج الوطنى.
والحقيقة أن الدولة خلال العام المنصرم لم تكتفِ بالمبادرات والطقوس الرمزية، بل اتخذت عدة مواقف عملية تحسب فى رصيدها حيال قضية المواطنة، أهمها بدء تفعيل القانون الخاص بدور العبادة، والترخيص للعديد من الكنائس بتوفيق أوضاعها، والجهد المبذول من قوات الجيش والشرطة لتأمين الكنائس وحماية المصلين وقد دفع ثمنه على أرض الواقع المرحوم الرائد مصطفى عبيد الذى استشهد أثناء تفكيك قنبلة بالقرب من كنيسة بمدينة نصر، فله الرحمة ولذويه خالص العزاء.
مع ذلك فإن حصاد العام جاء مختلطا على نحو ما عبر عنه تردد الدولة حيال التطرف والعنف الطائفى فى الصعيد وخاصة فى المنيا، وسكوتها على خطاب الكراهية الصادر عن قيادات دينية واعلامية معروفة، وحديثها المتكرر عن تجديد الخطاب الدينى دون تحديد المقصود بذلك أو كيفية تحقيقه.
هذا التناقض يجد تفسيره فى أن تناول الدولة لهذه القضية، وبالذات الجانب الطائفى منها، يأتى من خلفية سياسية ولكن لا يستند لأرضية دستورية وقانونية صلبة تسمح بتحقيق تقدم عميق ومستدام. والذى أقصده بالتناول السياسى هو التعامل مع ملف المواطنة باعتباره ركنا أساسيا فى الحرب ضد الاٍرهاب، وفِى الصراع مع الاسلام السياسى، وفِى ادارة علاقات مصر الدولية، وفِى التعبير عن بسط نفوذ الدولة على جميع مواطنيها، وفِى الحفاظ على دعم كتلة تصويتية وسياسية مهمة فى المجتمع. وهذا التناول لا يقتصر بالمناسبة على الدولة الرسمية بل يغلب على تصرف مختلف مؤسسات المجتمع من أحزاب ونقابات وجمعيات ووسائل إعلام وغيرها، سواء داعمة للحكم أم معارضة له.
وهنا يلزم توضيح أن استخدامى لتعبير «السياسى» فى وصف تعامل الدولة والمجتمع مع ملف المواطنة ليس بغرض التقليل من شأنه ولا الاستهانة بقيمته، بل أن هذا جانب مهم وضرورى فى هذا الملف المعقد والشائك. ولكن التناول السياسى، مهما كان مدفوعا بنوايا حسنة ومهما أُنفقت فيه جهود وأموال، فإنه يظل محكوما بالظرف السياسى، وبطبيعة المرحلة وحساباتها، وبالتفاوض المحتمل بين الأطراف المحلية والدولية، وبالتالى يظل عرضة للتقلب والمراوحة والتراجع، كما أن نتائجه تأتى متناقضة على نحو ما ذكرت.
أما تأسيس المواطنة على أرضية دستورية وقانونية فيتميز بأنه يستند إلى أسس واضحة قاطعة الدلالة وملزمة للجميع، لا تتأثر بالحسابات والتحالفات السياسية المتغيرة بطبيعتها، ولا تتبدل وفقا للضغوط الدولية، وبالتالى تأتى النتائج متسقة ومستدامة. والأهم من ذلك أن شعور المواطنين بانتمائهم لوطن واحد وبالمساواة يكون حقا قانونيا مكتسبا ومملوكا لهم وليس هبة من الدولة تملك منحها أو منعها.
فما الذى يجعل المواطنة حقا قانونيا مستقرا وليس مجرد مكسب سياسى قابل للتبديل؟
أولا، أن تكون المواطنة تعبيرا عن المساواة ليس فقط من المنظور الدينى ولكن من منظور الطبقة والنوع والأقليم والثقافة وغيرها. ومن هذا المنظور فإن مبادرة الدولة لدعم حقوق ذوى الإعاقة مثلا تعتبر فى تقديرى ركنا أصيلا فى ملف المواطنة وليست مجرد برنامج للحماية الاجتماعية.
ثانيا، أن يكون مفهوم المواطنة شاملا لكل مناحى النشاط الإنسانى ولكل الحقوق والواجبات بما فى ذلك الاستفادة من الخدمات العامة، والحصول على فرص العمل، وتقلد المناصب فى مؤسسات الدولة، وممارسة حقوق العقيدة والعبادة والتعبير عن الرأى، واحترام الثقافة والعادات والتقاليد، والتمتع بحماية أجهزة الدولة. فلا يكفى الترخيص بإقامة الكنائس إن لم تكن المنافسة على الوظائف العامة متكافئة، أو أن يرتفع عدد الوزيرات فى الحكومة دون حماية حق المرأة فى العمل والأجر.
ثالثا، ألا يسمح بارتباط أى من حقوق المواطنة بشروط متعلقة بالولاء السياسى أو بدعم حزب أو شخص أو حتى الحكومة لأن شرط الولاء لا يكون لغير الوطن، والمواطنة القانونية لا ترتبط بأى قيد مسبق أو لاحق بل يجب أن تقوم بذاتها.
رابعا، أن ينظر للمواطنة باعتبارها مفهوم مدنى، بل هو أساس الدولة المدنية، ولذلك فلا يمكن له أن يتحقق وينمو من خلال تكريس التفرقة حتى لو كان ذلك من منطلق اخلاقى نبيل. المساواة تتحقق من خلال ازالة الفوارق وهدم أسس التمييز ولا يكفى معها مجرد احترام «خندقة» كل فئة أو طائفة فى معسكرها. فالهدف الاسمى هو المساواة وليس مجرد احترام الاختلاف.
خامسا، اعتبار المواطنة حقا قانونيا وليس مكسبا سياسيا أو هدفا أخلاقيا. وهذا يعنى أن يكون لها قوانين تحميها وتجرم التفرقة والتمييز كما تجرم نشر الكراهية والتستر وعرقلة إنفاذ القانون واستبدال عدالة المحاكم باتفاقات وترتيبات عرفية ترسخ التفرقة بدعوى الاعتراف بالأمر الواقع. وهذا يقتضى صدور قانون حديث وشامل لمنع التمييز بكل أشكاله وتجريم ممارساته.
سادسا، إدراك أن القانون والمحاكم والشرطة ليسوا الأدوات الوحيدة لحماية المواطنة، بل يلزم أن تتضافر معهم جهود المجتمع بكل ما فيه من أحزاب واعلام مستقل وجمعيات أهلية ومبادرات جماعية للتنبيه المبكر بمواطن الخطر ورصد خطاب وممارسات التمييز والتدخل قبل فوات الأوان. ولعل مبادرة الحكومة لتعديل قانون الجمعيات تكون بادرة خير فى اتجاه بناء الثقة الضائعة بين الدولة والمجتمع الأهلى.
أسبوع المواطنة أوشك على الانتهاء. ومع ترحيبى وتقديرى لكل ما حمله من مشاعر ود وتضامن بين الناس ومن تأكيد الدولة على مسئوليتها تجاه كل مواطنيها، فإن الوقت حان لكى نتبنى مفهوما قانونيا ودستوريا للمساواة يجعل المواطنة الكاملة حقا قانونيا غير قابل للمساومة أو التفاوض، تسهر الدولة على تنفيذه ويحميه القضاء ويراقبه المجتمع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved