أزمة المشاعر العامة
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 7 فبراير 2016 - 10:40 م
بتوقيت القاهرة
استقرار المشاعر العامة على أوضاع شبه طبيعية من ضرورات اطمئنان أى مجتمع فى مواجهة التحديات التى تعترضه.
مما هو طبيعى أن تضطرب المشاعر أثناء الثورات وحوادثها العاصفة التى تقلب معادلات السياسة دون أن تتضح الصورة الأخيرة للمستقبل.
ومما هو غير طبيعى أن تتمدد الحالة نفسها بعد إيداع مطالب الثورات فى شرعيات دستورية.
أزمة المشاعر العامة فى مصر ليست هامشية ولا عابرة، فهى تعكس غياب القواعد المستقرة فى إدارة الدولة، وقدرا لا يستهان به من القلق على ما قد يحدث غدا.
بأى تقدير لا يمكن تجاوز جبال الأزمات بعصا سحرية، غير أنه لم تحدث مصارحة حقيقية بأحجامها وطبيعتها ولا جرى حساب سياسى للذين تسببوا فيها.
هذا صلب قضية «العدالة الانتقالية» التى لا تستهدف انتقاما وتشفيا بقدر ما تطلب إجلاء الحقيقة حتى لا تتكرر أخطاء الماضى مرة أخرى.
الخطوة الضرورية الأخرى لاستقرار المشاعر العامة على أوضاع شبه طبيعية أن يحفر مجرى جديدا تمضى فيه السياسات.
أن تكون هناك بوصلات تهدى الخطى وتبث الثقة أننا على الطريق الصحيح مهما تعاظمت التضحيات.
تلك مسألة رؤية سياسية أفضى غيابها إلى تآكل الرهانات الكبرى على التحول إلى دولة ديمقراطية حديثة تعلى من شأن الحريات العامة وتضمن حقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية.
فى فراغ الرؤية أطلت أشباح الماضى على المشاهد السياسية والاقتصادية والإعلامية.
وفى غلبة الأمنى على السياسى تبدت مخاوف لا يمكن إنكارها من احتمال العودة إلى المربع القديم.
كان ذلك داعيا إلى اضطراب فى المشاعر العامة يمكن تلمسه دون عناء على شبكة التواصل الاجتماعى.
بعض أسباب الاضطراب تعبير عن القلق من عدم وضوح الوجهة الرئيسية التى نمضى فيها.
وبعض الأسباب الأخرى تعكس على نحو صريح صراعات على القوة والنفوذ لتطويع الحاضر وفق مصالح الماضى.
أسوأ قراءة للمساجلات الصاخبة حول «ظاهرة الأولتراس» تلخيصها فى مشهد غاضب لتجمع من عشرات الآلاف منظم بدرجة عالية فى استاد النادى الأهلى أو سؤال متجدد عن حقيقة ما جرى قبل أربع سنوات فى استاد بورسعيد من حوادث دموية أسقطت أكثر من سبعين ضحية من مشجعى أعرق الأندية المصرية.
القضية أكبر من تجمع «الأولتراس» لكنه لخصها فى مشهد وسؤال.
المشهد يكشف جروحا عميقة استعصت على أن تندمل، وعدم ثقة فى مؤسسات الدولة واحتمالات لصدامات مقبلة قد تستقطب قوى أخرى.
والسؤال يتردد صداه فى ملفات عديدة تبحث عن الحقيقة دون جدوى.
الجروح لها ما يماثلها لدى قطاع عريض من الأجيال الجديدة يرون تضحياتهم ذهبت سدى وثمار الثورة ضاعت.
كأى جروح عميقة من مثل هذا النوع فإنها تولد كراهيات مع الدولة يصعب نفيها أو القفز عليها.
هناك من يحرض على الكراهية فى تعبئة تقف وراءها بعض مصالح رجال الأعمال وبعض منتسبى الأجهزة الأمنية.
فى التحريض دعوة إلى إفشال مبادرة الرئيس «عبدالفتاح السيسى» لفتح حوار مع الأجيال الجديدة التى «لا نعرف كيف نخاطبها ولا أن نتفاهم معها» بحسب نص تعبيره.
إنه صراع شبه معلن على صورة النظام ومستقبله.
التحريض يستهدف منع أى إصلاح ضرورى فى بنية المؤسسة الأمنية لتلحق بعصرها وفق القيم الدستورية.
وهذا ضد الأمن وينال من تضحياته فى الحرب على الإرهاب.
الأخطر دخول التحريض فى «فتنة مؤسسات الدولة».
عندما ألغت محكمة النقض حكما بإعدام (١٤٧) من منتسبى جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها وإحالة القضية إلى محكمة جنايات أخرى كان هناك من هو مستعد لاتهام أعلى سلطة قضائية بالتواطؤ على دم شهداء الشرطة الذين سقطوا فى مجزرة «كرداسة» التى وصلت بشاعتها إلى التمثيل بالجثث، إثر فض اعتصامى ميدانى «رابعة العدوية» و«النهضة».
باسم الدفاع عن الأمن وحقوق شهدائه جرى إهدار ما تبقى من احترام للعدالة فى مصر.
فإما أن تكون هناك عدالة أو لا تكون.
تأخر الحسم فى قضايا الإرهاب مأساة.
وتقبل إعدام برىء واحد مأساة أخرى.
من حق أسر شهداء الشرطة أن تطمئن قلوبهم على أن المجرمين قد نالوا عقابهم.
غير أن التحريض دون تبصر على مقتضيات العدالة وسلامة إجراءاتها ينسف أى رهانات على تأسيس دولة قانون.
الفرق بين الدولة والعصابة أن الأولى تخضع للقانون والثانية تستبيح الدماء.
فى دولة محترمة لا يمكن السماح بأى دعوات لقتل المتهمين داخل السجون دون محاكمة.
هذا توريط للأمن باسم الدفاع عنه ينزع عنه شرف وظيفته التى استدعت تضحياته.
الأخطر أن هناك أصواتا شاردة تتصور أن القصاص لشهداء الشرطة يعنى ظلم آخرين لم يتورطوا فى أى عنف يقبعون خلف القضبان وفق قانون التظاهر.
القاعدة إنصاف كل ضحية استبيح دمه أو سلبت حريته.
لا يصح أن يقال إن العفو عن الموقوفين من شباب «يناير» تنكر لتضحيات الشرطة.
عرض الموضوع على هذا النحو يستهدف منع كل إصلاح محتمل فى جهازى الأمن والعدالة وأى مصالحة ممكنة بين الدولة وشبابها.
إن مصر التى تضطرب مشاعرها العامة تحتاج إلى فتح قنوات الحوار العام وأن تشارك فيه كل قواها الحية و«عقولها النيرة» بتعبير الرئيس «عبدالفتاح السيسى».
نفى الحوار جهل بالحقائق.
فى بلد مثل مصر يمثل الشباب نحو (٦٠٪) من سكانه فإن الصدام معهم يعنى بالضبط خسارة المستقبل.
بأى معنى جدى للأمن السياسى فإن من مقتضياته تخفيض احتمالات الصدام ودرجة خطورتها.
وبأى معنى حقيقى لفرص بناء الدولة فإن دمج الشباب مسألة لا مفر منها.
السؤال الأكثر محورية فى أى حوار ممكن: كيف نحفظ الأمن وندعمه فى الحرب مع الإرهاب دون تغول على الحريات العامة والحقوق الأساسية للمواطنين؟
الحوار وحده هو القادر على استكشاف فرص بناء التوافقات العامة ومنع أى انفجارات مفاجئة فى وجه المجتمع.