الرؤساء والملوك المخلدون يغتالون الأمة ودولها..

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 7 فبراير 2017 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

يصح القول فى البلاد العربية بمجملها أن الدساتير ما وضعت إلا لتخرق..
ندر وجود حاكم عربى يمارس سلطته وفق الدستور وضمن نطاقه.


كل رئيس ملك، سلطان، خليفة، مدة ولايته مفتوحة مدى عمره، إلا إذا وقع حادث جلل من خارج التوقع ففاجأ الأجهزة التى تراقب دوران الأرض حول الشمس وتحصى أنفاس الدواب والطيور والسيارات والطائرات وتفحص ألوان الزهور والمحابر وتشتبه بكل عين ولسان وقلم ولو مكسور.
ضرب عدد من الرؤساء العرب الرقم القياسى فى الجلوس فى مقعد السلطة المطلقة.


بعضهم شارك فى دفن بضعة ملوك من أسرة تحكم بالشعار الدينى مثبتا أنه أقوى منهم جميعا... فهم قد ألغوا الشعب لكنه يعتبر نفسه الممثل الشرعى الوحيد للشعب، فإذا ما مات تيتم الشعب وانتفى الوطن وسقطت دولته.
حكم معمر القذافى، منفردا، ليبيا لحوالى أربعين سنة، بلا تعب الانتخابات أو حتى الاستفتاءات.. وليرحل من لا يعجبه الحال أو فليدخل المعتقل حتى يقضى «العقيد» أمرا كان مفعولا..
أما « الرقيب» على عبدالله صالح الذى رقى نفسه إلى «عقيد» هو الآخر، فقد كان يتباهى بأنه قد حكم اليمن أكثر من الإمام أحمد حميد الدين... بديمقراطية الاستفتاء الذى يلغى فيه الصوت الذى يجرؤ على قول «لا».
وحكم حافظ الأسد سوريا لمدة ثلاثين سنة كرئيس شرعى، وبضع سنوات قبلها وباسم حزب البعث الاشتراكى كرئيس فعلى وغير متوج... ثم هيأ لخلافة نجله الأول، فلما قضى بحادث سير، جاء بنجله الثانى وهو فى السلطة – حتى الساعة ــ وبرغم ما أصاب «الدولة»( 17 سنة.. وولايته الثالثة تنتهى بعد أربع سنوات).
.. ومن قبل حكم الحبيب بورقيبة لمدة 40 سنة، بوصفه بطل الاستقلال وبانى الدولة، ولما خلعه ضابط تبين أن لا دولة ولا استقلال.. وها هى تونس تهتز وترتج بين تحالفات الأحزاب الآتية من الماضى والآخذة إليه من فوق رأس الشعب العظيم الذى افتتح كتاب الانتفاضة بحركة البوعزيزى المباركة.
ومن قبل حكم صدام حسين العراق، وباسم حزب البعث العربى الاشتراكى، لمدة 35 سنة متصلة نصفها بصفة «السيد التائب» ونصفها الآخر بصفته الدولة والوطن والشعب مجسدة جميعا فى الحزب المختصر فى شخص «أبى عدى الرهيب».
***
أما الملوك والأمراء والشيوخ الذين جعلوا أنفسهم ملوكا على عروش من ماء وهواء (كما البحرين) فيحكمون حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.. إلا فى السعودية حيث يقدم النسل الغزير للوالد المؤسس البديل من بين جمهرة الأبناء (35) الذين مات بعضهم كمدا لأن العمر لم ينصفه فانقصف قبل أشقائه – القبيلة.
لا ضرورة طبعا للإشارة إلى أن هذه الدول «لم تكن فى أى يوم دولا بالمعنى الصحيح لكلمة دولة»، وبنظام غير نظام الرجل الواحد تساعده مجموعة من الأجهزة الأمنية التى تسهر على حكمه بإلغاء الدولة والشعب.


كيف كان يمكن لمجموعة المشيخات المؤتلفة على خلاف، المختلفة على الأرض المن رمل وعلى الشاطئ المنداح على الخليج العربى بالقواعد البريطانية والنفوذ الإيرانى أن تتحول إلى «دولة الإمارات العربية المتحدة»، لولا أن تلك كانت مصلحة عظمى غير عربية بالتأكيد... وإن كانت المصادفات قد سمحت بأن يكون الرئيس الأول لهذه الدولة، الشيخ زايد، بدويا طيبا وحكيما، «اشترى» الاتحاد بين المشيخات بالنفط الذى تدفق غزيرا، فأتاح له أن يسترضى الجميع فيرضيهم ماديا ومعنويا وينفق عليهم ويسمح لكل منهم بهامش للحركة فى مشيخته بحيث يكسب ولاءه من دون قسر.


.. وصارت الإمارات دولة عظمى فى محيطها بذهبها وطيبة حاكمها وكرمه الذى امتد من المغرب الأقصى إلى مسقط رأس قبيلته فى اليمن.. وهكذا تجسد شوارع وجادات ومنجزات باسم الشيخ زايد فى مختلف إرجاء الوطن العربى، من بينها إسهامه الجاد فى بناء سد مأرب فى اليمن.
أما قطر فقد تفجرت عند شواطئها بحار الغاز وتدفقت ذهبا فتعاظمت المشيخة إلى دولة، وصار الشيخ أميرا فعزل الابن الأب الذى كان قد عزل أباه من قبل، ثم فرض على الابن أن «يعترف بإسرائيل»، وأن يقيم قاعدة عسكرية أمريكية فى العديد ثم أن يتنازل ــ طوعا ــ إلى نجله الشاب الذى يتقدم – بثروته – ليغدو إمبراطورا، يحكم ويتحكم ويتدخل حيث يحلو له فى البلاد العربية.. فيتواطأ مع الإخوان المسلمين على مصر، ويسلح العصابات المسلحة التى تقاتل النظام فى سوريا، ويتدخل فى العراق، ويحشر نفسه فى ليبيا الممزقة نتفا، ويتآمر على الانتفاضة المجيدة فى تونس.. ثم يذهب إلى التحالف مع تركيا (وضمنا إسرائيل) ضد أهله العرب.
***


تصاغر الكبار من العرب وتعاظم الصغار، فاختلت الموازين جميعا، وأزاغ الذهب الأبصار.. صارت دول التاريخ العربى رهينة أهل النفط الذين هم رهائن الأجنبى والإرادة الإسرائيلية، فتضاءل «الدور» وكادت «القضية» تندثر: اختفت فلسطين عن خريطة القرار العربى الذى صادره الأغنى وليس الأجدر والأخلص، وسحبت من التداول كلمات مثقلة بمعنى المستقبل مثل «وحدة المصير» و«التحرير»، فضلا عن «الاشتراكية»، وضمرت «العروبة» حتى كادت تندثر كهوية ورابطة جامعة حول أهداف الغد الأفضل فى ظلال الحرية والوحدة والتقدم.


تراجع دور مصر المنهكة بالحروب التى خاضتها التزاما بموجبات دورها القومى وواجبها الوطنى، فتجاوزها الصغار بذريعة خطيئة السادات التى ارتكبوا أفظع منها بكثير، إذ صالحوا «العدو» الذى لم يحاربوه وخاصموا وضغطوا على «الكبار» من أهلهم وحاولوا أن يفرضوا عليهم سياسات لا تتناسب مع مصالحهم، فساعدوا الاحتلال على العراق بذريعة صدام حسين، ثم تخلوا عنه للاحتلال الأمريكى ومخاطر الفتنة التى نفخوا فيها وغذوها لتنتشر فى المنطقة جميعها مقسمة العرب المسلمين إلى سنة وشيعة مقتتلين وأقليات مسيحية وعرقية خائفة على وجودها، بما يفتح الباب وسيعا أمام الأجنبى والعدو الإسرائيلى.


بالمقابل حاولوا استرهان سوريا التى كان نظامها يسعى إلى حماية نفسه بموقفه، فأغروه باعتماد «الانفتاح» الذى دمر اقتصاد الدولة وفتح الأبواب أمام أموال الخليج والغزو التجارى والصناعى التركى، وأضعف علاقة السلطة بجمهورها، حتى وقع الانفجار الشعبى الذى تحول إلى حرب على سوريا وفيها، لا تزال مستمرة منذ خمس سنوات ثقيلة بالدم المهدور والخراب وتدمير معالم العمران وتشريد الملايين فى عواصف الثلج ومخيمات اللجوء لمن نجا من الغرق فى بحر الظلمات..
*****


وصل حافظ الأسد إلى سدة الرئاسة فى سوريا، عشية وفاة القائد العربى العظيم جمال عبدالناصر (أواسط تشرين الثاني ــ نوفمبر 1970). كان انقلابه العسكرى هو «الأسهل» فى تاريخ الانقلابات التى تكررت مرارا فى سوريا، لأنه كان قد أعد له عدته سياسيا وعسكريا على مهل وعبر سنوات من وجوده فى وزارة الدفاع وقيادة الطيران.. فضلا عن موقع متقدم فى قيادة حزب البعث التى كان «العسكر» يهيمنون عليها.


وبالتأكيد فإن حافظ الأسد كان شخصية متميزة بالذكاء الحاد، بل الدهاء، والنفس الطويل، والتخطيط الهادئ، وحسن اختيار معاونيه ومراعاة الحساسيات المذهبية والجهوية بعد طمسها بالشعار القومى، وهكذا حصن موقعه بمجموعة من الشخصيات والكفاءات المقبولة، معززا أجهزة الاستخبارات التى تعددت حتى ضاع الناس بينها.. فضلا عن أنه عزز الجيش بمجاميع مختارة تمتاز بالولاء لتشكل نسبة وازنة فيه غيرت فى القيادة وأعداد المنضوين تحت لوائه.
بالمقابل عزز حافظ الأسد رصيده الشخصى بمشاركة سوريا بدور فعال فى حرب تشرين (أكتوبر) 1973 ضد العدو الإسرائيلى.. وقد زاده خروج السادات من تلك الحرب، بغير تنسيق معه، وهو الشريك فيها، مكانة ونفوذا على المستوى العربى.


على أن إغراء السلطة جعل حافظ الأسد يستمر فى الرئاسة لمدة ثلاثين سنة متواصلة، برغم أنه فى سنواته الأخيرة فقد الكثير من حضوره المتميز بالذكاء بل الدهاء وطول الأناة.. ثم أنه ارتكب خطيئة حصر السلطة فى العائلة، فأعد ابنه الأكبر باسل «خليفة» فلما قضى فى حادث سير، استدعى ابنه الثانى بشار الذى كان يكمل دراسته فى طب العيون ليعده على عجل لوراثته فى موقع رئاسة الدولة، كل الدولة.


ومع التقدير لكفاءة الأب وحنكته ودهائه المعروف فقد كان طبيعيا أن تختل الموازين فى حكم يرفع راية الحزب (البعث العربى الاشتراكى) فى حين يحكم «الرئيس» بمساعدة بعض المعاونين المخلصين، خصوصا وأن الابن ليس بكفاءة الأب، ثم أن الظروف مختلفة كليا.. بل أن العالم كله قد تغير، فسقطت الأيديولوجيا وهزمت الاشتراكية التى التهمتها سلطة الحزب الواحد والبيروقراطية التى لا علاقة لها بالمبادئ.


وصحيح أن النظام السورى قد نجح فى مراحل عديدة، ومن خارج المتوقع، فأنجز نهضة داخلية، ولكن انزلاقه إلى الانفتاح بعد دهر من الانغلاق ومحاولة بناء الدولة بالقدرات الذاتية، قد ضرب الاقتصاد الوطنى واجتاحه الخارج التركى على حساب الصناعة الداخلية، ثم اختلف مع الدول العربية الغنية فتواطأت عليه وتدخلت لتحيل المعارضة الطبيعية إلى عصابات مسلحة تقاتل التفرد بالسلطة، تحت شعار الحزب الواحد، الذى انقرض منذ زمن طويل ولم يثبت حضوره فى مواجهة الفتنة التى ضربت سوريا جميعا فكادت تدمرها وطنا ودولة وشعبا طالما أكد صلابة وحدته الوطنية عبر التاريخ..
*****


فى الحرب على سوريا وعليها لعبت دول النفط، إلى جانب تركيا، دورا تخريبيا عظيما.. كما أن العدو الإسرائيلى لم يغب عن الميدان، فكان طيرانه الحربى يشارك فى «نصرة» المقاتلين ضد النظام كلما وجدهم فى مأزق.
وهكذا يعمل عرب الأمس خناجرهم فى جسد الغد العربى فيسخرون ثرواتهم لاغتيال الإنسان العربى وحقوقه فى أرضه ومستقبله الأفضل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved