دبلة دهب

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الجمعة 7 فبراير 2020 - 11:15 ص بتوقيت القاهرة

مدت يدها إلى الجواهرجي كي تجرب مقاسات الدبل المختلفة وفي الخلفية صوت اللذيذة شادية يغني لها "يا دبلة الخطوبة عقبالنا كلنا". الأجواء يسودها البِشر كما يحدث عادة في مثل هذه المناسبات، ومن بعيد يختلس الزبائن النظر للعروسة وهمهماتهم تتناهى إلى مسامعها: حلوة بس.. رشيقة لكن.. صغيرة إنما. عموماً هي في عالم آخر، لا تأبه.. لا تغضب.. لا تنشغل.. لا لا يا مسيو أمير هذا المقاس كبير، وهذا المقاس أيضا، وهذا... لم تتركها أمها تكمل جملتها وأشارت للجواهرجي بأن المقاس الأخير مناسب، ثم نظرت لابنتها قائلة: غداً تمتلئين ويصبح هذا المقاس الذي ترينه اليوم كبيراً يادوبك على القد. تباً لهذا المنطق الذي تؤمن به كل الأمهات، الفستان الأكبر.. الحذاء الأوسع.. الچاكت الأطول، وهكذا يظل الأبناء يلبسون ما يناسب عمرهم وقد أضيف إليه عام آخر وربما عامان آخران، لكن ما لم يخطر على بال العروس أن هذا المنطق قد امتد أيضا ليحكم اختيار دبلة الخطوبة، عموماً فإنها لن تصنع مشكلة.. هي سعيدة بل سعيدة جداً وفي لحظات السعادة يزيد الاستعداد لتقديم التنازلات.
*
منذ انتقلت الدبلة الدهب من يدها اليمنى إلى يدها اليسرى قبل نحو ثلاثين عاماً أو أكثر وقد صارت جزءا لا يتجزأ من تكوين يدها، إنها ليست قطعة حُلي، إنها قطعة منها هي شخصيًا، وكما أن صاحبتنا تكبر وتنضج فإن الدبلة هي الأخرى تطور من نفسها وتنتقل من دور تؤديه إلى دور آخر. في البداية وبعد أسبوع واحد من الزفاف دخلت صاحبتنا إلى سوبر ماركت لتشتري بعض متطلباتها، وعند الكاشير قالت لها المحاسبة بكل ثقة: حسابك مائة جنيه يا مدام. مدام؟ يا لها من محاسبة عفريتة تلك التي اكتشفت أن زبونتها صارت مداماً بينما أن كثيراً من المعارف لم يصل إليهم الخبر بعد. دست يدها في الحقيبة لتخرج حافظة النقود فلمعت الدبلة الدهب وبهرها صفارها وكأنها تقول لها: نحن هنا، وهكذا لعبت الدبلة دوراً تعريفياً بها. ثم بعد أن استقر وضعها في محيط المعارف والأصدقاء بوصفها مدام فلان الفلاني، أصبح للدبلة دور جديد، وكان هذا الدور هو دور الحاجز. في مجتمعاتنا الشرقية امرأة بدون دبلة في يدها اليسرى هي امرأة مستباحة، طالما أنها ليست من حق أحد إذن فكل أحد له حق فيها، هي لا تحب هذا التشخيص ولا توجد امرأة تحبه لكنه الواقع، وعلى أي حال فإن الدبلة وحدها لا تحمي ولا تردع لكنها على الأقل تشكل خط الدفاع الأول عن المرأة ثم يأتي الدور على صاحبة الشأن لترسم لنفسها باقي خطوط الدفاع. تمر السنون كلمح البصر ويكر عقد وراء عقد وتمتلئ ذاكرة صاحبتنا بكل تفاصيل الماضي فلا يعود للحاضر فيها مكان، وهنا تحاول الدبلة الدهب أن تلعب دوراً مختلفاً، أما هذا الدور فهو التنبيه. لا تحبذ صاحبتنا أن تدّون التزاماتها على الورق فهي لا تثق تماماً في الورق ولا تجد وقتاً كافياً للتدوين، لذلك صارت تستسهل كلما أرادت أن تذّكر نفسها بشيء أن تقوم بنقل الدبلة من يدها اليسرى إلي يدها اليمني، لكن المشكلة أنها في كثير من الأحيان وبعد أن تشد رحال الدبلة من يد ليد كانت تنسى لماذا حصل ما حصل، ومع ذلك فلقد قامت الدبلة بالواجب في بعض الأحيان فنبهت صاحبتنا كي تطفئ الفرن حين تنضج كيكة البرتقال وذكّرتها بأن تتناول الڤيتامين بعد الإفطار ولفتت نظرها إلى تهنئة جارتها الودودة على أداء العمرة، وفي مثل هذه الحالات كانت صاحبتنا تشعر بالامتنان الشديد. ومع ذلك فليست هذه كل أدوار الدبلة الدهب، فهي قد تستخدمها في مهام أقل أهمية كأن تحبس بها مثلاً خواتمها الواسعة، هكذا؟ لقد صارت صاحبتنا إذن مثل أمها تشتري في بعض الأحيان الأوسع والأكبر، نعم هو كذلك ونحن كلما كبرنا تشَبَهنا بأهلينا.
*
على هذا النحو تعايشت صاحبتنا مع دبلتها طيلة هذه الأعوام الثلاثين ونشأت بينهما عشرة طيبة وهي لا تفرط في العشرة. يتطور شكل دبل الخطوبة فيزيد سمكها أو ارتفاعها تبعاً لخطوط الموضة، لكن دبلتها تظل على حالها لا تتغير، لقد صارت أشبه بخيط رفيع يلتف حول خنصرها، وتآكل سمكها بالتدريج مع طول الاستخدام وبدا أرفع فأرفع، لكنها تتعلق بها كما هي. إن هذه الدبلة تسجل لحظة تاريخية معينة، ولو استبدلتها أو غيرتها فسوف تختلط التواريخ وتختفي معالم المشهد القديم في محل الجواهرجي إياه.. وسيختفي أيضاً وجه أمها. لأجل ذلك كله يمكن أن نتفهم حالة الهلع التي تملكت صاحبتنا ذات مساء عندما كانت تتحسس دبلتها بحركة روتينية كالمعتاد فلم تصطدم بها، نظرت إلى إصبعها فوجدت الدائرة البيضاء التي رسمتها الدبلة حوله موجودة كما هي أما الدبلة نفسها فلم تكن هناك. ماذا؟ فوجئت.. انتفضت.. ارتعشت.. ركضت.. فتشت وفتشت وفتشت.. تذكرت لا لا لم تتذكر فقط حاولت، غلالة سوداء انسدلت على عقلها فما أمكن لها أن تعرف متى آخر مرة كانت الدبلة في خنصرها. يا دبلة الخطوبة عقبالنا كلنا، هل شادية تغني فعلاً أم أنها التي تتذكر؟ أصمّت أذنيها بكفيها من وجع الكلمات، كيف تواجه العالم غداً بإصبع عار وبدون دبلتها الدهب؟ قالت لها معاونتها ما أكثر النساء بدون دبلة دهب، ردّت عليها الناس مذاهب. ثم عادت وقالت لها غداً تشتري دبلة جديدة، فأجابتها ثلثي عمري في الدبلة القديمة وليس القديم كالجديد.
*
لكن لن يبيت إصبعها عارياً، هكذا قررت. فتحت خزانتها وبعثرت محتوياتها حتى وصلت إلى العلبة القطيفة الحمراء التي لم تلمسها من سنين، في العلبة توجد دبلة أمها التي أصرت هي أن تكون من نصيبها عند قسمة المصاغ مع أخوتها الذكور، هذه الدبلة كانت جسر الود بين أمها وأبيها وكانت أمانته عندها واسمه عليها، لذلك أحبتها صاحبتنا حبين. نظرت إلى التاريخ المكتوب على الدبلة نوفمبر ١٩٣٠، مممم هذا تاريخ منتحل ولا يمثلها لكن منه تستمد شرعية وجودها، زجت إصبعها بيسر في الدائرة الحبيبة واستكانت نفسها بعد جهد عصبي رهيب. همست قائلة: الصباح رباح وغداً أقلب الدنيا وأعاود البحث في النور، وكما اختارت لي أمي هذه الدبلة لأول مرة فسوف تدلني عليها وتردها لي، ارتاحت لهذا التفسير البسيط وانتظمت أنفاسها حتى تخيلت أن جهازًا للتنفس قد التف حول إصبعها فأخذت منه نفَساً عميقًا وغفت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved