عقد اجتماعي جديد

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 7 فبراير 2020 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

ذهب الساكنُ إلى إدارة الحيّ؛ طالبًا إرسال عمَّال تقليم الأشجار، للاعتناء بحديقة مُهمَلة أمام البناية التي يقطنها. جفَّت نباتاتُ الحديقة منذ زمن، وتيبست النخلةُ المَغروسة في أرضها وتراجعت الحشائشُ؛ حتى بدت الأرضُ كالرَأس الأصلع. أجاب المسئولُ حين استمع للشكوى: "أصل ما عندناش موظفين كفاية". لم يكُن الرد غريبًا فسوابق مُشابهة وَقَعت، وأخرى سوف تقع؛ لا يثير أيها دهشة ولا عجبًا.
***
يُقرّ المفهوم التقليديّ الذي صاغه روسو شارحًا عملية ضَبط المجتمعات؛ تنازُل المُواطنين عن بعض حقوقهم الشخصية، مقابل أن توفر لهم الدولةُ- أو الحكومة- الأمانَ اللازم لمُمارَسة أنشطةِ الحياة المُختلفة، وأن تكفُلَ التعايش السِلميّ وتقدّم الحمايةَ للجميع.
***
لم يعُد هذا المفهوم ساريًا إلى حدّ بعيد؛ فثمة عقد اجتماعي جديد تجري صياغته بالتدريج وبما يلائم الواقع ويترجمه. يؤسس هذا العقد لسيادة الفعل السلبيّ التضامُنيّ، الذي تتواطأ عليه الأطراف جميعها؛ بدلًا من التوافق على فعل إيجابي مُتبادل. الاتفاق الذي تلوح بشائره في الأفق منذ فترة ليست بقصيرة؛ يقضي بأن تكف الدولة عن ممارسة دورها، وأن يمتنع المواطنون عن الالتزام بضوابطها.
***
على سبيل المثال يصمت المواطن عن دور الدولة في تأمين حياته أثناء عبوره الشوارع سائرًا على أقدامه، وفي المقابل تصمت الدولة إذا ألقى المواطن بنفسه في نهر الطريق دون التزام بأماكن عبور المشاه، ودون أدنى اهتمام بلون الإشارة؛ إذا كانت هناك واحدة. يتغاضى المواطن عن دور الدولة في توفير سلال قمامة بالأماكن العامة وتفريغها بما يليق، وفي المقابل لا توقع الدولة عليه عقوبة حين يلقي بقمامته على النواصي بل وفي الميادين. الأرصفة هي الأخرى مجال حيوي للتطبيق؛ فالمواطن لا يطالب بحقه في المشي عليها، والحكومة لا تطالبه بالتزامها، وهناك أيضًا من ينتفع بها كامتداد لمساحته الخاصة المملوكة؛ فيصف مناضد ومقاعد مقهى يديره، أو يحتلها متجر بسياراته، أو يجعلها الباعة معرضًا مفتوحًا، تتراص فيه البضائع. ملابس وحقائب وحليّ، يقفز المارة فيما بينها وربما يقف أحدهم ليشتري.
***
يبدو هذا العقد الجديد عادلًا وأسهل في التطبيق، إذ لا يتطلب إنفاقًا ولا يستهلك مجهودًا. الطرفان يمتنعان عن اتخاذ أي مبادرة لتنظيم الحياة المشتركة؛ ويتجاهلان القوانين واللوائح المنصوص عليها، ويتفقان على اختفاء كل منهما عن فضاء الآخر. يتبادلان الصمت والانسحاب ويستمتعان بالتنصل من الواجبات والمسئوليات. لا يخلو الأمر من لقطات استثنائية متفق عليها؛ أو على الأقل معروفة للجميع، يؤدي فيها كل طرف دوره الأصلي لتجميل الصورة؛ فحملة إزالة إشغالات هنا أو هناك، وتفعيل وقتي لإشارات المرور، وصيانة طارئة وتنظيف. فترة قصيرة تعود بعدها المياه إلى مجاريها ويمارس الكل ما توافقوا عليه.
***
الحياة بقدر أكبر مِن الحرية أمر مُغر ولا شك، والقواعد الصارمة التي تطبقها بلدان أخرى تجد المُتذمّرين منها، والراغبين في خرقها، والناقمين على واضعيها؛ ففيها انضباط يثير الملل، وقيود خانقة تُسيّر الحياة على وتيرة واحدة، وتقلل من فرص الابتكار والتحايل والخداع. العقوبة أيضًا مسألة مزعجة، فورقة تلقى هنا أو جوال قمامة يستقر هناك، أو عابر متكاسل عن إدراك خطوط المشاه البيضاء، أو قائد عربة حلا له تجاهل الإشارة الحمراء؛ كلها أفعال مثيرة، وسلوكيات تحلو ممارستها لو من حين إلى آخر.
***
يقول التعبير الشعبيّ الأصيل: "سيب وأنا أسيب"، علاقة تعكس تكافؤًا بين اثنين، كما تؤكد تعارض إرادتيهما، وفي الوقت ذاته تبلور طبيعة العقد الاجتماعي الجديد؛ المراد إرساؤه. لا تسائلني ولن أسائلك، لا تؤاخذني ولن أؤاخذك، لا تستخدم لتقييد حريتي سلطتك ولن أضايقك بالبحث عن حقوقي لديك.. اتركني لحالي وأتركك.
***
تبدو المقايضة بالفعل منصفة لكن ثمة من سيتأذى ولا شك؛ إذ المواطنون ليسوا جميعهم في سلة واحدة، كثيرهم يحتاج وجود الدولة ولا يقدر على التخلي عنها، وفي الوقت نفسه لا يملك المقدرة على الاستفادة من غيابها وتعويضه بأفعال غير مشروعة تدر عليه المزايا. على سبيل المثال لا الحصر؛ يحتاج المارة من كبار السن أرصفة ملائمة، فإذا لم تعمل الحكومة على إخلائها من إشغالاتها، لن يمكنهم جميعًا الانتفاع بإقامة المقاهي المربحة عليها. المتطايرون في الهواء بسبب حوادث السير؛ لم يستفيدوا قطعا من اختصار الوقت، وخرق السرعة المقررة، وغياب نقاط عبور المشاه المُفعلة.
***
جاء الساكن الدؤوب بعمال ثلاثة تابعين للحيّ، وقرر أن يعطيهم أجرًا إضافيًا ليقوموا بعملهم. نجح الأمر لفترة، ثم رفع العمال ما يطلبون من مقابل، وبدا إنجازهم بطيئًا ضئيلًا؛ فكف الرجل عن استقدامهم.
***
تحاكى السكان الذي يطلون على الحديقة الجرداء؛ بأن ثمَّة مَن حقَق فائدة جمَّة مِن وراء إهمالها، فقد عثروا فيها ذات يوم على نباتات تندرج بقائمة الممنوعات، لم يعرفوا صاحبها ولا استطاعوا التخلص منها؛ إذ واصلت نموها منتعشة رغم ما أحاط بها من جفاف.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved