شيخ الأزهر والدكتور الخشت.. لا للانتهازية

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 7 فبراير 2020 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

انتهز البعض هذا الحوار الثرى بين الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، والعلامة الدكتور محمد عثمان الخشت للهجوم على أحدهما أو كليهما، فالبعض انتهزها فرصة للنيل من الإمام، وآخرون انتهزوها للهجوم على الدولة وعلى الخشت، ناسين أن هذا الحوار العميق الثرى بين العالمين الجليلين هو مصدر ثراء وإثراء للفكر الإسلامى، وأن ما بين العالمين من الود والاحترام يستعصى على محاولاتهم، وأن نقاط الاتفاق بينهما أعظم من نقاط الاختلاف، وأن ما بينهما كان اختلافا فى الرأى، وليس خلافا فى الأصول والثوابت.
الإمام الطيب صوفى النزعة زهد الدنيا والمناصب، فالصوفية لا تصطدم بالسلطة ولا تنازعها ولا تخاصمها، لكنها تدافع عن الدين فقط دون أن تدور حول نفسها أو تجعل من نفسها قضية، الشيخ ليس معارضا لأحد ولا متماهيا مع أحد، وهو يدور حول الشريعة حيث دارت وهمه الأكبر تبليغ رسالة السماء ولا يدور فى فلك أحد ولا يخشى فى الله لومة لائم ويحب الناس جميعا ولا يكره أحدا، هاجمه الكثيرون بضراوة فتمسك بالصبر الجميل والحلم النبيل ولم يخرج يوما عن وقاره أو ينزلق إلى مهاترات هؤلاء.
أما عثمان الخشت فهو مفكر مبدع يحب الدين والوطن، يعرف أحكام الإسلام جيدا، ويجيد التفريق بين البشرى الذى يجوز نقده والمقدس الذى ينبغى التوقف عنده، يدرك الفرق بين نصوص الشريعة، وبين تفسير المفسرين وشروحهم أو استنباطاتهم الفقهية، فالأولى ملزمة والثانية غير ملزمة ولكنها عطاء عظيم لعلماء عظام لا يلزم كل الأجيال التالية لهم، وأن الفتاوى والأحكام التى تبنى على المصلحة والعرف تتغير بتغير الزمان والمكان والأعراف.
كلا العالمين الجليلين يدرك أن فى الإسلام ثابتا ومتغيرا، وكلاهما يردد أننا مع ثوابت الإسلام فى صلابة الحديد ومع متغيراته فى مرونة الحرير، وكلاهما يدرك الفارق بين كلمة التراث وهو عمل البشر وفقههم فى النصوص، وبين خلط كثير من الصحفيين والكتاب والأدباء والمثقفين غير المتخصصين الذين يضيفون السنة المحمدية وأحاديث الرسول إلى التراث، ويريدون حذفهم جميعا جملة واحدة وإزاحتهم من طريق الحياة دون تفريق بين أحاديث الرسول وتراث الفقهاء والعلماء.
التراث الفقهى والفكرى والصوفى والأخلاقى الذى سطره الفقهاء على مدى 14 قرنا هو تراث ثرى جدا، فيه من الحكم والعبر والمواعظ والأخلاقيات ما يبنى أمما وإمبراطوريات، ولكن لا يؤخذ كله ولا يترك كله، ولا يقدس ولا يبخس.
كرر الإمام الأكبر أكثر من مرة: «أن قانون التجديد هو قانون قرآنى خالص توقف عنده طويلا كبار أئمة التراث الإسلامى وخاصة فى تراثنا المعقول وأنه ضرورة لتطوير السياسة والاجتماع»، وقال فضيلته: «إن التجديد تعبير تراثى وليس حداثى»، ورغم ذلك يصر البعض على تلويث الأزهر وعلماء الدين بوصفهم يقدسون التراث، فلا أحد فى الأزهر ولا علماء الدين يقدس التراث، لأن فى التراث نفسه كل معانى البحث عن الحقيقة كما قال الإمام، فالتراث يحمل ملكات وأوامر التجديد فهذا الشافعى قال «لا تقلدونى ولا تقلدوا مالكا ولا أبا حنيفة وخذوا من حيث أخذنا»، وهذا أبو حنيفة «إذا صح الحديث فهو مذهبى» ولكن هذا الأخذ يحتاج إلى علم ولا يحسنه كل أحد، والبعض يفترض فيهم التقديس ثم ينزل منه إلى التبخيس وإهالة التراب عليه.
أما أحاديث الرسول «صلى الله عليه وسلم فهى ملزمة بحسب أحكامها من الوجوب أو الندب أو الإباحة، وكلا العالمين الطيب والخشت متفق على أن العقائد لا تؤخذ من أحاديث الآحاد.
التراث الإسلامى هو عطاء أئمة الإسلام عبر عصور كثيرة يحمل عطاء وثراء وجهود أعظم العلماء طوال قرون فيه من الثراء والعظمة الكثير حتى وإن لم يكن معصوما، وصدق الإمام بقوله: «إن هذا التراث حول هذه القبائل المتناحرة خلال 80 عاما أن يضعوا قدمهم فى الأندلس والأخرى فى الصين علما وحضارة وقوة لأنهم عرفوا وعملوا بمواطن الفقه والعزة فى التراث».
الفقهاء الأقدمون طوال 1400 عام أفنوا أعمارهم كلها فى ربط الدين بالحياة بما يناسب عصرهم وزمانهم، وعلى فقهاء زماننا أن يقدموا عطاءهم بما يناسب عصرهم وزمانهم.
أزمة أمتنا فى الأساس ليست فى مسألة التراث أخذه أو تركه فلا علاقة للتراث بأكثر مصائب العالم العربى وكلنا يعرف ذلك ولكننا نضع رءوسنا فى الرمال.
وتحميل التراث ما لا يحتمل هو من تأليف وإخراج مجموعات كارهة للتراث بل وللدين أساسا ولكنها تتدرج فى إزاحة الدين عن الحياة مستفيدة من حمق وجنون جماعات العنف والتكفير مثل القاعدة وداعش وأخواتهما.
الإمام الأكبر لا يبحث عن زعامة أو تصدر سياسى لأنه أكبر من ذلك وأسمى، ومكانته الدينية أعظم من السياسة، فضلا عن زهده فى الدنيا وخاصة الجاه فهو يعمل بدون مرتب ويرفض هدايا الملوك وتردد كثيرا قبل قبول المنصب.
مشكلة الخطاب الدينى ليست أزهرية فى الأساس ولكنها من تيار الإسلام السياسى ومعظم مفرداتها سياسية اجتماعية فكرية أكثر منها دينية، ولا سلطان للأزهر على هذه الحركات وخاصة أنه لم يعط فرصة حقيقية للحوار معها سواء فى قوتها أو ضعفها.
وضع الإمام الأكبر فى موضع التشدد والتعصب إهانة كبيرة له وللأزهر، أما الذين يضعون الخشت فى خانة العلمانيين وخصوم الدين فعليهم أن يتوبوا إلى الله وينتهوا عن ذلك، فالإمام الطيب من أعظم من تولى مشيخة الأزهر علما وزهدا وعفة وتصوفا وخدمة للدين وترفعا عن الدنايا، أما الخشت فلا ينكر علمه وفقهه وعبقريته الإدارية وتطويره الرائع لكل موقع تولاه، وكلاهما أدلى بدلوه دون مواربة لخدمة الدين.
الذين يصورون الأزهر وشيخه مصادما للحكومة يضرون الأزهر، وهم كالدبة التى تقتل صاحبها دوما دون أن يتعلموا من دروس الأمس، فالأزهر مؤسسة حكومية تضع حماية ورعاية وتعليم علوم الإسلام هدفها الأسمى والرئيسى ولا تجامل ولا تداهن فى ذلك فهى ليست فى باب الصدام مع أحد ولا مداهنته أيضا، فدورانها الأصلى حول الشريعة.
وفى عهده أخرج الأزهر أعظم الوثائق التى تجمع بين الدين والحياة، والدين والوطنية، والدين والحريات العامة، والدين والديمقراطية، والدين والتآخى الإنسانى مع جميع الأديان، كثير الصمت والحلم والتأمل، قليل الكلام، كثير العمل، بث الله محبته فى الآفاق.
الإمام الأكبر لم ينافح عن الأشاعرة كفصيل ثم قصفه كثيرا ولكنه يدافع عن عقيدة أهل السنة التى كان يمثلها الأشاعرة فى فترة زمنية، لكنه يدافع عن الإسلام وعقيدته، أما الخشت فهو يدافع عن الإسلام أيضا وليس عن العلمانية المتطرفة الجاحدة.
تعددية الصواب التى ذكرها الخشت صحيحة وقال بها الفقهاء الأولون وإن أكثر النصوص ظنية الدلالة، وهذا من سعة الشريعة ورحمتها، ليأخذ منها كل فقيه ما يتناسب مع زمانه وأعراف قومه فيتجدد عطاء النص أبدا.
الإمام الأكبر والدكتور الخشت كلاهما يريد التجديد فى الخطاب الإسلامى الذى يجمع بين الواجب الشرعى والواقع العملى وبين النص والعقل، والدين والحياة جمعا صحيحا، وإلا لما أقام الإمام هذا المؤتمر الذى نبعت فكرته من الأزهر وقبله عشرات المؤتمرات فى كل الكليات، وليس كما يدعى البعض أنه مفروض عليه، ولما دعا إليه صديقه العلامة الخشت، وما جرى بينهما هو حوار جيد ثرى وعميق يفيد العلم والفكر ويقربهما ولا يباعدهما.
كلمة الإمام الأكبر «ابحثوا عن مشكلة أخرى لتخلفكم ودعوا التراث فى حاله» كلمة حق صدرت من أعظم عالم جدد ويجدد فى منظومة التراث ولكنه رأى المعاول تريد الانطلاق من تجديد التراث والسنة النبوية إلى إلغائه ثم إلغاء الدين الإسلامى ــ والإسلامى وحده ــ من حياة الناس.
كلمة الإمام صادقة فالتراث ليس السبب الحقيقى للتخلف لأن التراث لا يقود ولا يتحكم فى شىء فى حياة أمتنا المعاصرة ولا علاقة له بكوارثنا بدءا من هزيمة 67 وانتهاء باحتلال الكويت والعراق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved