التفاوض السورى بين العسكريين والسياسيين..

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 7 فبراير 2021 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

تشكّل أخيرا «هيئة حكم» فى ليبيا تحت ظلّ الأمم المتحدة، مهمّتها إدارة مرحلة انتقاليّة حتّى انتخابات عامّة فى غضون الأشهر القادمة، وإعادة توحيد البلاد المنقسمة إلى ثلاثة أجزاء. هذا الخبر يُعطى بعض الأمل لليبيين أنّ بلدهم باتت على سكّة «حلٍّ سياسيّ». وبالتماهى بدا للسوريّين أنّ زمن «الحلّ» قد اقترب بالنسبة لهم أيضا. خاصّة وأنّ الصراع فى سوريا وعليها تزامن فى انطلاقته وفى مساره مع ذلك الليبيّ. بل وتماثل معه فى بعض النواحى.
لكن لا يبدو أنّ أيّا من اللاعبين الليبيين الذين يقودون الأطراف المتنازعة مستعدٌّ للاستقالة من منصبه، ولا يبدو أنّ هناك اهتماما كبيرا بالاجتماعات التى تعقدها لجنة عسكريّة 5+5 أيضا برعاية الأمم المتحدة ولجنة متابعة دوليّة، ليس فيها بالمناسبة جميع الدول الأساسيّة المنخرطة فى الصراع المسلّح. لجنةٌ تهدف إلى تثبيت وقف إطلاق النار وتفكيك الميليشيات وخروج المقاتلين الأجانب، وأغلبهم سوريون على طرفى الصراع. كما تهدف وكذلك تشكيل قوّة أمنيّة تحمى مقرّ المجلس الرئاسى المشترك الذى سيكون مقرّه فى مدينة سرت، وسط البلاد، ورمز وحدتها القديم، وعاصمة القذافى السابقة. فى حين أعلن ممثلو مقاتلى قبائل «التوبو» الجنوبيّون أنّهم قد استُثنوا من هذا المسار.
ليس واضحا إن كان مسار الحلّ السياسيّ الليبى هذا سيذهب إلى نهاياته. خاصّة وأنّه تشكّل فى ظلّ فترة الإدارة الأمريكيّة السابقة وأنّ المقاتلين الأجانب والسلاح ما زالوا يتدفّقون على البلاد بدل خروجهم منها، فالمطامع فى ثرواتها النفطيّة كبيرة، وهى أكثر واقعيّة من «سمكٍ فى البحر»، كما غاز شرق المتوسّط.
لكنّ الأمل قد خَرَج من القمقم فى ليبيا ويبدو أنّ بعضا منه قد جال لدى السوريين رغم الإحباط القائم من جولة المحادثات الأخيرة للجنة الدستوريّة فى جنيف والتشنّج الذى يخلقه موعد الانتخابات الرئاسيّة القريب. تشنّجٌ يترجمه الهياج القائم على صفحات التواصل الاجتماعيّ والطروحات العبثيّة التى تبرز من خلاله.
***
يبقى التساؤل مشروعا عمّا إذا كان ممكنا أن يأخذ «الحلّ السياسيى» فى سوريا مسارا مشابها للحالة الليبيّة؟
سوريا أيضا البلاد مقسّمة إلى ثلاث، تدعم كلّ منها دولا تتصارع. ولكنّها لا تقوم على بحرٍ من الثروات الطبيعيّة، وهى تفقد اليوم حتّى موارد معيشتها الأساسيّة فى كلّ أنحائها بانتظار كارثة إنسانيّة أكبر. ربّما أنّ أفق هذه الكارثة هو المحفِّز الأكبر لإيجاد حلّ لسوريا قبل فوضى لا يمكن ضبطها. الليبيّون لم يجوعوا رغم الحرب، بل ما زال 40% ممّن يعملون فيها.. عمّالا أجانب.
تكمن أهميّة سوريا فى أنّها متجاورة مع القوى الثلاث المهيمنة فى المنطقة: تركيا وإيران.. وإسرائيل، ونتائج أزمتها ستحدّد إلى حدٍّ كبير المواقع المستقبليّة لهؤلاء اللاعبين الرئيسيين الثلاثة. ومصير سوريا يرتبط عضويّا بالعراق ولبنان، وكلاهما غارقان فى أزمات طويلة الأمد. وإذا كان الليبيّون لا يختلفون كثيرا على نواحى الهويّة والإيديولوجيّة وصيغة الدولة، فإنّ هوّة الهويّات تتّسع أكثر فأكثر بين المناطق السوريّة الثلاث. بعد أن ترسّخت مع سنين الصراع العشر.
ما يلفت الانتباه فى المسار السياسى السورى القائم اليوم هو أنّه لا يرتبط بواقع التقسيم الحالى للبلاد، وما زال يجد جذوره فى واقع مرحلة ماضية من الصراع. إنّ «قوّات سوريّا الديمقراطيّة» (قسد) التى تهيمن على الشمال الشرقى ليست طرفا فيه، ولا «جبهة فتح الشام» التى تهيمن مع تركيّا على الشمال الغربى. وليس واضحا إذا حدث اختراقٌ سياسيّ فى جنيف كيف سيُمكن تطبيقه على هاتين المنطقتين. هكذا تبدو الأمور وكأنّ التفاوض يتركّز فقط حول من يحكم دمشق مستقبلا، فى حين لا شيء يدلّ على نهاية التقسيم إذا حدث تغيير ولا على قدرة «هيئة الحكم الانتقالية» المنصوص عليها فى قرار مجلس الأمن الشهير 2254 على التعامل مع الأوضاع الحاليّة. هذا فى حين أنّ التفاوض الحقيقيّ هو بين القوى العسكريّة، صاحبة الكلمة الفصل ومن وراءها فى المناطق الثلاث، وليست القوى السياسيّة.
***
يبدو فى المشهد الراهن أنّ «أبو محمدّ الجولانى» يستعدّ لتفاوضٍ من نوعٍ آخر من بين جميع القوى المقاتلة، وقد بعث رسالة واضحة عندما لَبِسَ بذّة مدنيّة لمقابلة صحفيّ أمريكيّ، فى حين تصنّفه الولايات المتحدة على أنّه إرهابيّ عالميّ. لكن من الصعب تصوّر تفاوض عسكريّ يقود إلى حلّ سياسيّ مع «فتح الشام»، لا مع السلطة ــ العسكريّة ــ القائمة فى دمشق أو مع «قسد». هذا فى حين تبدو نافذة التفاوض الممكنة والتى يمكن أن يدفع إليها «المجتمع الدولى» إذا كان جادّا فى الحفاظ على وحدة الأراضى السوريّة.. هى بين سلطة دمشق و«قسد».
لم يسِل دمٌ كثيرٌ بين الطرفين، والقوّتان تعانيان اليوم من «الدولة الإسلاميّة» ومن احتمال عودة نشاطها بشكلٍ كبير. وهى بالتحديد تستفيد من خلافاتهما. فهى لم تنتهِ كما كان الرئيس ترامب قد أعلن ذلك، وها هى تعيد إرهابها فى العراق. كما يتشارك الطرفان التواجد العسكرى والإداريّ فى بعض المناطق على هذا الطرف أو ذاك. ويتفاوضان دوما، مباشرةً أو عبر روسيا. كما حدث مؤخرا من خلال الحصار المتبادل على الحسكة والقامشلى من ناحية وعلى الشيخ مسكين من ناحية أخرى. ويعرف الطرفان جيدّا أنّ كليهما بحاجةٍ إلى الآخر اقتصاديّا. كذلك يعانيان، كلاهما أيضا، من قدرتهما على ضبط الفصائل المقاتلة فى جبهتيهما، رغم قوّتهما النسبيّة. لكنّ هذا لا يمنع واقع أنّ القائمين على هذين الطرفين صعبا المراس ويتشابهان من حيث التكوين الحزبى و«العصبويّ».
إنّ إرادة تصميم إطار للتفاوض بين هذين الطرفين، أو حتّى مع الطرف الثالث، رغم صعوبة تصوّر أن تجلس تركيا على الطاولة مع «قسد» فى مرحلة أولى، فإنّ هذا التفاوض سيكون حُكما بين العسكريين بالدرجة الأولى كى يكون حقيقيّا. ما يعنى تفاوضا عسكريّا أمنيّا ذا أبعاد سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة. لكنّ نجاح هذا التفاوض إلى حلّ يتطلّب «تطعيمٍ» بشكلٍ قويّ بعناصر عسكريّة ذات نفوذ يعترف الطرفان بمصداقيّتها وحياديّتها، بل أيضا الطرف الثالث. ما يعنى نوعا من المجلس العسكريّ يضمّ أيضا شخصيّات سياسيّة غير عسكريّة بذات الصفات تضمن أن يتجّه المسار فى النهاية نحو منظومة حكم سياسيّة، وليس حكما عسكريّا على بلاد موحّدة بدل سلطات عسكريّة على أجزاء مقسّمة كما هو الحال الآن.
بالتأكيد لن يتمّ التوصّل، فى تصوّر مثل هذا التفاوض، سريعا إلى حلولٍ مستدامة. ولكن يُمكن تخيّل كثير من الخطوات التى قد تساهم فى كبح التدهور والتقسيم الحاليين. ويُمكن البناء على أنّ حلولا بين طرفين قد تحفّز الأطراف الثلاثة للانخراط، كما حدث سابقا عند طرح المبعوث الأمميّ خطوة وقف الصراع فى حلب قبل أن يُفشِلها.. هو نفسه. مثال ذلك، تخفيف معاناة المواطنين على كافّة أطراف الصراع عبر فتح المعابر بينهما برعايّة روسيّة أمريكيّة مشتركة تحديدا، وضمان مرور كافّة المنتجات والأشخاص، وليس فقط المساعدات. هكذا تتقلّص إيرادات «أمراء الحرب» والميليشيات التى تقوم على التهريب.. ضمن الأراضى السوريّة.
عدا ذلك، ستطلق السلطة فى سوريا بعض المعتقلين وتحسّن بعض الشيء الأحوال المعيشيّة لتمرير انتخابات رئاسيّة عبثيّة. وستستمرّ السلطة فى الشمال الشرقى فى محاولة فرض هيمنتها على مدنٍ رئيسة فى ظلّ تهديدات تركيّة بالاجتياح.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved