حتى لا يقع العمل الأهلي المصري في المحذور

محمد علاء عبد المنعم
محمد علاء عبد المنعم

آخر تحديث: الثلاثاء 7 فبراير 2023 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

حذر كثيرون من ممارسات الجمعيات الأهلية الخيرية فى مصر، خاصة ما يتعلق بأساليب جمع التبرعات وشفافية الإدارة والإنفاق.
المبدع الراحل وحيد حامد شبّه القائمين على إعلانات جمع التبرعات التى تملأ شاشات التليفزيون، خاصة خلال شهر رمضان، بـ«زيطة» صانع العاهات فى رواية نجيب محفوظ «زقاق المدق»، الشخص السيكوباتى الذى «يساعد» الراغبين فى احتراف التسول بتشويه أجسادهم عن طريق تصفية عين أو بتر ساق.
ينتقد هذا الطرح تشويه صورة المستفيدين من الجمعية الخيرية، وتصويرهم فى كثير من الأحيان على أنهم بلا حول ولا قوة، كما لو كانوا عبئا على المجتمع وعلى الجمعيات التى تسعى لعلاجهم من مرض معين أو تزويدهم بأبسط حقوق المعيشة مثل المياه النظيفة أو سقف يسترهم.
وليس من مصلحة المرضى أو المحتاجين أن يتم التركيز على ضعفهم وإخفاء ملكاتهم وقدراتهم، إن تصوير المصابين بمرض معين، على سبيل المثال، باعتبارهم غير قادرين على العمل والإبداع والتميز، وهى صورة مغلوطة، قد تحرم الكثيرين من فرصة للعمل اللائق أو المنافسة العلمية أو العملية التى يكونون فى الواقع قادرين على دخولها والتميز فيها.
ومن هنا فقد أصاب الرأى بأن هذه الإعلانات تضر وتشوه وتستبيح الحرمات أكثر مما تفيد، حتى بدا أن تعبئة التبرعات يفوق فى أهميته كثيرا من الاعتبارات الإنسانية.
كما انتقد الكثيرون أساليب إدارة هذه المؤسسات، وغياب الشفافية فى أوجه إنفاقها، إن مجرد التفكير فى حجم الأموال التى يتم ضخها سنويا لإنتاج الإعلانات وإذاعتها يرسم صورة صادمة عن توجهات الإنفاق. صحيح أن إنتاج الإعلان ربما يكون فى جزء كبير منه مبنى على التبرع، ولكن إذاعته فى قنوات تليفزيونية خاصة يتطلب مبالغ ضخمة، وسعر دقيقة الإعلان الواحدة فى شهر رمضان يصل إلى عشرات الآلاف من الجنيهات.
ومن هنا ذكر الخبير الاقتصادى مدحت نافع على هذه الصفحة أن بعض ما تدعيه هذه الإعلانات غير دقيق. فالقول مثلا إن كل جنيه تتبرع به إلى الجمعية الفلانية سوف يعالج مريضا أو يبنى سقفا لأسرة فقيرة أو يُزوّج محتاجا أو محتاجة هو قول منتقص. ومن الأوقع مثلا القول بأن كل جنيه تتبرع به يذهب منه أربعون قرشا لعلاج مريض وعشرون قرشا للمرتبات وخمسة عشر قرشا للإعلانات، وهكذا.
ومن هنا تبرز أحد أهم الانتقادات التى تهدد استدامة الدور التنموى والإغاثى الذى تقوم به هذه الجمعيات، وهو الانتقاد الموجه ناحية غياب آليات الحوكمة، بمعنى غياب الشفافية فى الموازنات وآليات العمل، بما فى ذلك الضمانات اللازمة لحسن إدارة الموارد ومنع الهدر والوساطة والمحسوبية.
• • •
لا أشكك فى صدق النوايا الساعية إلى تحسين الأوضاع ورفع المعاناة من خلال العمل الأهلى الذى يشجع التطوع وعمل الخير.
وفى مصر أكثر من 48 ألف جمعية أهلية تنفق مليارات الجنيهات سنويا على العمل المجتمعى، وتأتى الغالبية العظمى من تمويلها من تبرعات المصريين.
هذه الجمعيات تقدم خدمة للراغبين فى المساهمة بأموالهم فى رفع المعاناة عن غيرهم، إنها معادلة الخير التى تقلب المنطق الاقتصادى رأسا على عقب، فبدلا من السعى إلى جمع المال لإشباع حاجات شخصية، نحتاج إلى وسيلة نضمن بها أن تذهب أموالنا لمن يستحقها.
لذا فإن الثقة فى جدوى العمل الخيرى وجدية ما تقوم به الجمعيات الخيرية يعتمد بالأساس على اليقين بأنها ستحقق الاستخدام الأمثل للأموال التى يقدمها المتبرعون والمتبرعات بدوافع إنسانية و/أو دينية، وليس لتحقيق أهداف شخصية أو سياسية.
ومن الطبيعى أن تبارك الدولة وجود جمعيات أهلية قادرة على حشد التبرعات من ملايين المصريين الراغبين فى رفع المعاناة عن المحتاجين، وفى تأدية فريضة الزكاة.
وتسعى الدولة إلى توجيه هذه الموارد إلى وجهة تسهم فى تقليل الفقر والمعاناة، وتنمية المجتمعات المحلية، وربما الإسهام فى البحث العلمى ورعاية الإبداع، وهى الالتزامات التى أصبحت ميزانية الدولة عاجزة عن الوفاء بها. وتخشى الدولة فى ذات الوقت من انحراف هذه التبرعات إلى جماعات تخريبية.
• • •
يجب أن تلتفت جمعيات العمل الخيرى إلى أن دورها ومستقبلها يرتبط بقناعة الناس بأنها تحقق الاستخدام الأمثل لأموال التبرعات فى تخفيف معاناة المحتاجين وإحداث تنمية مستدامة.
لذا فإن استمرار علامات الاستفهام حول حوكمة الإنفاق فى هذه الجمعيات هو المؤشر الأهم على الحاجة لمزيد من الشفافية والرقابة.
يجب كذلك التأكيد على الاستقلالية بمعناها الواسع، بحيث تكون مبادئ الجمعية الخيرية هى الدافع الأساسى لحركتها، وليس أية اعتبارات أخرى سياسية أو شخصية.
يرتبط بالنقطة السابقة ضرورة الفصل بين الجمعيات الخيرية ومؤسسيها، فقيام شخص بالمبادرة بإنشاء جمعية خيرية هو عمل يستحق الاحترام، ولكنه لا يعنى استمراره أو استمرارها فى إدارتها دون سقف زمنى، كما لو كانت شركة عائلية (يمكن بالطبع الاستمرار فى القيام بأدوار مختلفة بشكل تطوعى، ودون تقاضى أى راتب أو مقابل، من باب درء الشبهات).
ونحن نتطلع لاستقبال شهر رمضان، علينا أن نلتفت إلى أن الجمعيات الأهلية والمتبرعين سيستفيدون من إنهاء الجمعيات لسباقها المحموم بحثا عن أموال التبرعات.
وهو سباق غير عادل، يحرم كثيرا من الجمعيات الجادة التى تقدم خدمات وأعمال قيمة من التبرعات لأنها غير قادرة على تمويل الإعلانات أو لا تتمتع بدعم شخصيات مؤثرة اجتماعيا.
لذا من المفيد تكامل الجهود الدعائية بين الجمعيات الخيرية بديلا عن حالة التنافس السفيه بينها.
الأوقع أن تتكاتف الجهود أولا فى سبيل تأكيد الرقابة العامة وشفافية الموازنات، مع اعتبار كل متبرع عضوا فى الجمعية العامة للجمعية الأهلية التى يتبرع لها، وله كامل الحقوق فى الاضطلاع على موازنتها وممارساتها ومساءلة مجلس إداراتها.
بمعنى آخر، يجب ألا ينتهى دور المتبرع بإرسال أمواله وحمد ربنا على وجود هذه الجمعيات، بل يكون تبرعه بداية لدوره الرقابى كعضو مشارك فى رأس مال الجمعية.
وبدلا من عشرات الإعلانات التى تتكلف ملايين الجنيهات سنويا، من الأفضل التفكير فى عمل إعلان موحد، أو عدد قليل من الإعلانات، تتعاون فيه الجمعيات التى تشترك فى أنشطة متقاربة، ويكون على هذه الجمعيات مجتمعة أن تحصل على شهادة من جهات رقابية، وربما مؤسسات دينية، تتابع التزامها بأسس الحوكمة ومعايير الرشادة المالية.
وهو ما سيؤدى إلى ما تسميه أبحاث الإدارة synergy، أى تحقيق خفضا فى النفقات نتيجة تكامل الجهود. وهو ما يتسق مع الجهود القائمة حاليا للتنسيق بين الجمعيات والمؤسسات الأهلية.
فبدلا من إعلان عن جمعية لأمراض القلب وأخرى للسرطان وثالثة للحروق، يتم عمل إعلان واحد لثلاث أو أربع جمعيات لشرح أنشطتها والتزامها بمعايير الحوكمة.
ويكون دور الإعلان المشترك هو الحديث باختصار عن أنشطة عدد من الجمعيات ودعوة المشاهد للتبرع أو التطوع فى أى منها دون تمييز.
يجب تشجيع التطوع، وليس فقط التبرع.
ولا تُظلم وفق هذا السيناريو جمعيات صغيرة لا تستطيع منافسة الكبار، ولا تستدعى المنافسة على الأموال سباقات محمومة تُستنزف فيها الأموال ويُشوه بسببها المنتفعين من العمل الخيرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved