إصلاح الجهاز الأمنى.. الأسئلة المؤجلة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 7 مارس 2015 - 11:55 ص بتوقيت القاهرة

القضية ليست أن يذهب وزير داخلية ويجىء آخر.. فالسياسات قبل الرجال.

باليقين هناك تدهور خطير فى الثقة العامة بالجهاز الأمنى وصل إلى حدود منذرة وتساؤل قلق عن صورة الدولة ومستقبلها.

أول واجبات القادم الجديد استعادة الثقة العامة ووقف الانفلات فى الجهاز الذى يترأسه، فقد أفلت من كل عقال كأننا أمام مؤسسة فوق القانون تناقض الدستور الذى يلزمها بأن تكون «فى خدمة الشعب وولاؤها له» وأن تلتزم بـ«احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية».

هذه المهمة تستدعى شجاعة الاعتراف والمواجهة وتصحيح ما اختل من سياسات وتصرفات.

لم يحدث فى تاريخ الأمن المصرى الحديث كله أن ترافقت تضحياته وتجاوزاته على هذا النحو المحير والمربك.

التضحيات بفواتير الدم هائلة بكل قياس، فكل ضابط يخرج من بيته فى الصباح لا يعرف هل يعود أو لا يعود إليه مرة أخرى، لكن نبلها يكاد يتبدد بتجاوزات تفوق أكثر الكوابيس بشاعة.

انتهاكات أقسام الشرطة وصلت فى بعض الحالات إلى القتل تحت التعذيب، وفى حالات أخرى إلى التمثيل بالجثث وهتك الأعراض.. والاستهتار البالغ أودى بحياة العشرات فى «سيارة ترحيلات أبو زعبل» و«أحداث استاد الدفاع الجوى» كأنه لا قيمة للحياة الإنسانية، ومقتل ناشطات سياسيات على رءوس الأشهاد بلا ذنب أو جريرة.

بتراكم الحوادث المفزعة وغياب الحساب على أية جرائم كاد يترسخ أننا بصدد إعادة تأسيس الدولة البوليسية من جديد.

هذا أخطر استنتاج فى بلد قام بثورتين لكى ينتقل إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة ونظام حكم يلتحق بعصره.

الاعتقاد شائع ومتواتر إلى درجة يصعب نفيه بكلمات مراوغة.. وقد أكده التدخل الأمنى الصريح والمباشر فى اختيار المرشحين للانتخابات النيابية المقبلة والضغط على آخرين لعدم الترشح باسم أحزابهم، كأننا عدنا إلى أسوأ مما كنا فيه واستدعى الثورة عليه.

التصرف على هذا النحو اعتداء على الدستور والقانون والديمقراطية وإساءة إلى الصورة العامة للبلد وهو يستكمل الاستحقاق الثالث والأخير فى خارطة الطريق.

بأى حساب سياسى لا يحتاج رئيس الدولة إلى مثل هذه التصرفات فأيا كانت نتائج انتخابات البرلمان فإن أغلبية نوابه سوف يقفون فى صفه دون حاجة إلى تزوير أو خدمات أمنية.

لماذا التدخل على هذا النحو الخشن؟

الإجابة ببساطة: لأنه لا توجد سياسة فى هذا البلد تلزم الأمن بأدوار لا يتجاوزها وحدود لا يتعداها.

السلطة، أية سلطة، لا تعرف الفراغ.. والأمن، أى أمن، يملأ ما يراه أمامه من فراغ.

فى الفراغ السياسى أفلت الأمن من أى قواعد.

وهذه مشكلة تعترض أية توجهات محتملة لإصلاح الجهاز الأمنى.

وفى الحرب مع الإرهاب شاع تصور أن الأخطاء كلها مبررة أيا كانت بشاعتها.

وهذه مشكلة حقيقية أخرى تواجه القادم الجديد، فإما أن تكون هناك قواعد أو لا تكون، وعندما تغيب قواعد الحساب تتبدد فكرة المؤسسة.

نظرية تحصين أية أخطاء أمنية من الحساب القانونى بزعم أن الشرطة تضحى فى الحرب مع الإرهاب فاسدة تماما وتضفى على انتهاكات إجرامية مسحا من شرف الشهادة.

الكلام لا يصح ولا يتسق ولا يستقيم مع أى معنى للتضحية.

أى استهتار بكرامة المواطن العادى فى الشوارع وأقسام الشرطة هو استهتار فادح فى متطلبات الحرب مع الإرهاب.

بتلخيص آخر فإن صون كرامة المواطنين يتجاوز ما هو دستورى وإنسانى إلى ما هو لازم لكسب الحرب.

من ينتهكون مواطنيهم يسوغون بالوقت نفسه العمليات الإرهابية ضد زملائهم، وهذه جريمة متكاملة الأركان تستدعى الحسم بدلا من التهاون والانضباط بدلا من التسيب، فلا أحد فوق القانون ولا أحد فوق المساءلة.

نظرية الإعفاء من الحساب أيا كانت الجرائم أفضت إلى تقويض الثقة العامة فى الجهاز الأمنى وإشاعة جو من الفوضى فى الجهاز نفسه، فطالما أنه لا حساب فكل الأخطاء مباحة وكل التجاوزات ممكنة.

ما معنى أن تكون هناك مؤسسة إذا لم تكن هناك قواعد معلنة وما معنى أن تكون هناك قيادة إن لم تكن هناك سياسة ملزمة.

الخطير حقا أن بعض الانفلاتات الحالية جديدة تماما على ما جرى اعتياده فى الأزمان التى شهدت تغوّل الأمن على الحياة العامة.

ثمة شيء من النزوع إلى سطوة الماضى، إلى التجبر القديم، كأنه رد اعتبار أو انتقام بأثر رجعى من ثورة يناير.

وكأن هيبة الشرطة لا تتحقق إلا بسحق المواطنين، وهذا التصور بالذات هو الذى أفضى إلى تقويضها بالكامل فى يناير.

بالوقت ذاته فهناك نزوع آخر إلى الاعتراف بالأسباب الجوهرية التى أفضت إلى تقويض الجهاز الأمنى أثناء الثورة والعمل على عدم الوقوع فيها مرة أخرى، غير أن هذه النزعة تكاد تضيع فى زحام التجاوزات.

ما بين النزعتين تتبدى الأسئلة المؤجلة فى إصلاح الجهاز الأمنى.

كيف نعيد البناء من جديد وفق القواعد الحديثة بما يضمن رفع مستويات الكفاءة لأداء الخدمات الأمنية ومواجهة إرهاب يتوحش والحرب معه قد تطول؟

وكيف نصون الحقوق الدستورية لعامة المصريين دون تغول عليها واستهتار بها ونحفظ فى الوقت نفسه للأمن هيبته الضرورية لإنفاذ القانون؟ـ

وقبل ذلك كله: كيف نوقف التدهور المتسارع فى الثقة العامة بالجهاز الأمنى؟

الإصلاح مهمة ثقيلة على القادم الجديد وفكرة الإصلاح نفسها تعرضت لتشويه منهجى.

فى أعقاب يناير تعالت نداءات لإعادة هيكلة وزارة الداخلية، وقد أدت تصرفات الجماعة إلى إساءة سمعة الفكرة كلها وبدا أن الهدف منها تقويض الجهاز الأمنى والسيطرة على مفاصله.

جرى اختراق وزارة الداخلية على نحو منهجى بتعيين موالين فى المناصب العليا وإزاحة آخرين.. ولأول مرة فى التاريخ المصرى يخضع الأمن لسلطة جماعة سرية.

بالتوقيت نفسه نشأت حركة احتجاج فى أوساط الضباط الشبان ترفض الانصياع للأوامر أو تنفيذ تعليمات قمع التظاهرات السلمية قبل (٣٠) يونيو، وكانت تلك أفضل فترات العلاقة بين الشرطة وشعبها لكنها تعرضت لتصدع سريع، ولم يبن أحد على ما تم إنجازه، وشاعت تصورات تصطنع التناقض بين يناير ويونيو وتحسب الأمن على قوى الماضى.

كان أسوأ ما نسب إلى الأمن أنه وراء حملات اغتيال الشخصية التى نالت من وجوه يناير، وهذه الممارسات من أسباب الشكوك فى أن الدولة البوليسية تطل برأسها.

الملف كله يحتاج إلى مراجعة حقيقية تؤكد أهمية الأمن ودوره دون تغول على مواطنيه.. وتضع يديها على أوجه القصور وسبل إصلاحها.

هذا ما تحتاجه مصر لتستعيد ثقتها فى أمنها ومستقبلها ومعنى تضحياتها.

وهذا ما يحتاجه الأمن لكى تتسق تضحياته مع أدواره.

وهذا هو الاختبار الرئيسى للقادم الجديد فى وزارة الداخلية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved