هايج.. شغف وترحال إلى الأبد

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 7 مارس 2020 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

فيه شيء من طزاجة حبات الكرز التي ارتبط معناها باسم عائلته ذات الأصول الأرمينية، فهو ينتمي لعائلة "كيرازيان" التي جاءت من القسطنطينية إلى مصر واستقرت بها في الفترة ما بين 1890 و1915، هربا من المذابح التي اقترفها السلطان عبد الحميد الثاني ضد الأرمن، دون تدخل حقيقي من المجتمع الدولي والقوى الأوروبية المسيطرة وقتها. وكان عدد الأرمن في القسطنطينية وحدها يترواح بين 161 ألفا وفقا لتعداد الكنيسة الأرمينية، و84 ألفا ونيف بحسب التعداد الرسمي العثماني.
غيب الموت هايج كيرازيان، في الأسبوع الأخير من شهر فبراير الماضي، وهو الصحفي الكبير الذي غطى العديد من أحداث العالم العربي والإسلامي على مدار خمسة وعشرين عاما من المهنية، خاصة من خلال عمله بكبريات الصحف الفرنسية وتحديدا جريدة "لومند" اليومية و"لومند ديبلوماتيك" الشهرية. لم تعد هذه النوعية من الصحفيين موجودة إلا فيما ندر، فهو جيل يختلف عن الجيل الحالي تماما، ويتميز عنه بعمق النظرة وبحساسية كبيرة تجاه المنطقة جعلتا موضوعاتهم الصحفية على درجة من الوعي والدراية لا مثيل لهما في وقتنا هذا. لم يعمل في فرنسا التي هاجر إليها في مطلع خمسينات القرن الماضي بسبب انتمائه السياسي لليسار المصري وتحديدا لتنظيم حدتو، تحت اسمه الأرميني الذي تحمله بطاقة الرقم القومي المصري "هايج ليون كيرازيان"، بل ترجم اسمه للفرنسية فصار "جون جيريس"- أحد أعمدة قسم الشرق الأوسط في جريدة "لومند"، جنبا إلى جنب مع صديقه الأقرب وواحد من أنجب الصحفيين والدبلوماسيين الفرنسيين ذوي الأصول اليهودية المصرية وهو إيريك رولو، الذي ربطته علاقة استثنائية بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
والغريب أن إيريك رولو مات في الأسبوع نفسه، قبل بضعة سنوات، عام 2015، في باريس عن عمر يناهز التاسع والثمانين، في حين توفي كيرازيان بالقاهرة وهو في سن الخامسة والتسعين. وقد جاء خصيصا لكي يواري جثمانه الثرى في مصر ويدفن إلى جوار أخته المحببة لقلبه بمدافن الأرمن بمصر الجديدة، حيث عاش ردحا من حياته منذ ولادته في هذه الضاحية الكوزموبوليتانية التي كانت تجمع العديد من الجاليات الأجنبية في تناغم فريد، صار هو أيضا قيد الماضي.
***
كانت باريس منتصف الأربعينات وبداية الخمسينات حاضنة للعديد من الأجانب الذين أتوها من كل حدب وصوب فأثروا الحياة الثقافية والسياسية بها، وكان هايج كيرازيان ضمن ثلاثة أخوة هاجروا إليها: الأبن الأكبر ديكران- الصحفي والمترجم- تلاه أخوه الرسام الشهير ادمون كيرازيان الذي ذاع صيته بسبب سلسلة "الباريسيات" تحت اسم "كيراز"، ثم هايج الذي اشتغل بقسم الاستماع للإذاعات العربية في وكالة الأنباء الفرنسية. وبما أن هذه الأجيال كانت متشبعة بالثقافة المصرية وتتقن العربية فقد استطاع أن يتنبأ بخبر وفاة عبد الناصر مبكرا، ويحقق سبقا صحفيا للوكالة، عندما تنبه لإذاعة مصر وقتها للآيات القرآنية بشكل مستمر، فطن إلى أن حدثا جللا قد حصل، وأن ناصر قد مات، وكانت هذه هي بداية مغامرات مهنية مثمرة ساقته إلى إيران وأفغانستان والسودان وليبيا والبحرين وعمان واليمن وغيرهم من البلدان، لتغطية أهم أحداث المنطقة التي يعاد تشكيلها من وقت لآخر.
لم يترك لنا كتابا، بل الكثير من المقالات والموضوعات الصحفية المعمقة التي لا يمل من قراءتها، فقد كتبت برشاقة ولغة راقية واحترام لوجهات النظر المتباينة، ما يجعل المتلقي يحيط بملابسات المواقف السياسية في أوج نشاطه الصحفي في السبعينات والثمانينات قبل أن يحال إلى المعاش عام 1991. وصف عودة الخوميني إلى طهران بعد سنوات قضاها في منفاه الباريسي، كما تمتع بعلاقة وثيقة مع مختلف الفصائل الكردية ونشطاء جنوب السودان، وغطى الحرب العراقية- الإيرانية، وتحولات منطقة الخليج، وكان مساندا للقضية الفلسطينية، وحرص أيضا على الذهاب إلى أرمينيا والكتابة عن شؤونها المفصلة خاصة بعد الاستقلال. وفي الفترة الأخيرة، دشن شبكة أطلق عليها اسم "الواب"، كان يجمع عليها أخبار المنطقة بالإنجليزية التي أتقنها إضافة إلى الفرنسية والعربية والأرمينية، ويضعها في خدمة زملائه بالمجان ليطلعوا على مجريات الأحداث.
***
ارتباط عجيب بمصر وبالمنطقة ظل يميز هذا الجيل، فتروى الحكايات عن صديقه الأرميني أيضا الذي بلغ هنري كوريل، مؤسس الحزب الشيوعي المصري، بتفاصيل الهجوم الثلاثي على مصر في 1956، فأبلغه كوريل إلى ثروت عكاشة ومنه إلى عبد الناصر، ولم تأخذه المخابرات المصرية بقدر من الجدية. وتروى أيضا الحكايات عن صحفي آخر من أصول أجنبية عاش في مصر، وبعد وفاته أراد أن يتم نثر رماده في النيل. وثالث توقف عن أخذ الدواء ومات عندما قوبل طلب عودته إلى القاهرة بالرفض بعد سنوات طوال قضاها في الخارج. علاقات غاية في التعقيد والرقة، فالكثيرون منهم أجبروا على الرحيل، وآخرون اتبعوا صيحة النزوح إلى أوروبا سعيا وراء حرية أكبر، لكن ظل هناك شرخ وتعلق وحنين وشعور بالانتماء رغم "البهدلة" والاحتجاج.
ظلت هناك طزاجة اسم وروح "كيرازيان" الساخر، المحب للموسيقى وللحياة بجنون، الشغوف بالسفر، الذي كان ينتوي إعادة دراسة الأمثال الشعبية بالعامية المصرية، وجهز الكتب المتاحة قبل رحيله، ووضعها على منضدة إلى جواره. كانت هناك لدى هذا الجيل رغبة في استكمال ما تم بدءه، وكأن المشوار لا ينتهي طالما تسري الدماء في العروق.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved