الأوطان ليست.. دكاكين

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 7 مارس 2021 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

شكّلت لحظة «ثورة 17 تشرين» فى لبنان انعطافا فريدا فى تاريخ البلاد.
الأزمة الاقتصادية والمالية التى تفجّرت شملت كلّ فئات الشعب اللبنانى، فانتفضت كلّها، ليس ضدّ قوّة هيمنة خارجيّة، بل ضدّ «زعاماتها» التقليديّة ذاتها: «كلُّن يعنى كلُّن». وبرزت جديّا المطالبة بـ«دولة مدنيّة» تتخطّى الآليّات الطائفيّة التى قامت عليها مؤسّسات الدولة اللبنانيّة منذ إنشائها، وما شكّل سابقة تاريخيّة حقيقيّة. لقد أضحى أفق إنشاء حكمٍ انتقاليّ ينسِف اعتبارات المحاصصات الطائفيّة، وينقذ البلد من الكارثة التى تعانى منها ويضع أسس «الدولة المدنيّة»، مقبولا شعبيًا بشكلٍ واسع ومُمكنا. إلاّ أنّ زخم هذه المطالبة خَفُت مع تتالى الأحداث التى تتالت. فتمّ استغلال انفجار المرفأ من حيث إنّه أصاب حيّا مسيحيّا أكثر من غيره. وتلاعبت السياسة بالتحقيقات القضائيّة الخاصّة بذلك الانفجار وبأحداث طرابلس أو اغتيالات الضاحيّة حيث تمّ وضعها جميعها ضمن تفسيرات انقسامات الهويّات فى البلاد وكأنّها أزليّة لا يُمكن تجاوزها.
***
قضيّة الهويّات ليست أمرا سهلا. ليس فى لبنان ومنطقتنا فحسب، بل فى كلّ بلدان العالم، من الصين إلى الولايات المتحدة إلى أوروبا. وواضحٌ أنّ العصر الحاليّ يشهد بروزا للهويّات على الصعيد السياسيّ بعد أن انهار زمن «الأيديولوجيّات» الفكريّة الذى ساد فى القرن التاسع عشر حتّى أواخر القرن الماضى. لكن هذا لا يعنى أنّ هذه الهويّات تمثّل جوهرا لا يتغيّر وأزليّا. إنها ليست إشكاليّة بحدّ ذاتها بقدر ما أنّ الاستغلال السياسيّ لها.. هو الإشكاليّ.
جميع الدول القائمة اليوم بنيَت على هويّات مركّبة متداخلة ومعقّدة. هويّات لغويّة وإثنيّة، حقيقيّة أو متخيّلة. هكذا يتمّ تدريس الفرنسيّين أنّهم أحفاد الغاليّين البرابرة الذين حاربهم الرومان، فى حين أنّ حقيقة الأمر أعقد من ذلك بكثير وواقع سكّان فرنسا اليوم لا يتقبّل ذلك كثيرا. وهويّات ثقافيّة ودينيّة، كالبلدان التى ارتبط تاريخها بمذهبٍ معيّن. كما أنّ هنالك هويّات مناطقيّة ومدينيّة راسخة فى القدم، كما فى إيطاليا وألمانيا. كلّ هذه الهويّات المتوارثة عبر التاريخ تتفاعل وتتباين تراتبيّتها المُعاشة كثيرا مع الزمن.
بالطبع، تنحصر بعض الهويّات بجزءٍ من السكّان. لكنّ الخطاب عن أغلبيّة وأقليّات و«مكوّنات» لا معنى له. فتعبير «الأقليّات» ابتكارٌ من الحقبة الاستعماريّة كما شرح ذلك جورج قرم وغيره. ومفهوم «الأغلبيّة» المقابل يعتمد إحدى الهويّات دون غيرها، أيضا لأغراضٍ سياسيّة محليّة أو استعماريّة حديثة. فى حين تمزج «حضارة المدن» رويدا رويدا الهويّات المتوارثة وتصهرها بعد أن أضحى أغلب سكّان العالم يقطنون المدن، حتّى فى منطقتنا.
مجتمع لبنان هو الأكثر مدينيّة اليوم بين دول المنطقة، وبيروت وطرابلس وصيدا وبعلبك كلّها تمزج هويّات متعدّدة. وتموضع قوى سياسيّة خلف هويّات طائفيّة والاستمرار بالتشبّث وراء توازناتها القديمة المفترضة فى مؤسسات الدولة ليسوا سوى عبث يعيق تقدّم لبنان ومجال لاستنفاد إنتاج نشاط أبنائه نهبا وفسادا. صحيحٌ أنّ هذه التوازنات أعطت لبنان ميّزة حريّات فرديّة جنبّته مسارات دول عربيّة أخرى، لكنّها لم تجنبّه حربا أهليّة ولا وهم النهوض الذى تلاها وكان سقوطه مدويّا. هذه الاصطفافات المذهبيّة أضحت اليوم هى العائق الرئيسيّ أمام الحريّات والمواطنة.
مجتمع سوريا عرف هو الآخر انتفاضةً شعبيّة تحوّلت إلى حربٍ أهليّة على أساس هويّات، تلاعبت بها السياسة من السلطة القائمة إلى الدول الخارجيّة. وقد تغاضى كثيرون عن الانجرار الذى حدث من المطالبة بالحريّة والكرامة وبـ «الدولة المدنيّة» نحو التطرّف بحجّة أنّه ردّ فعل «الأغلبيّة» على القمع ونحو خطابٍ يدور حول «إثنيّات» و«مكوّنات» فى البلاد. وتناسوا شعار الاستقلال السوريّ «الدين لله والوطن للجميع» إرضاءً لبعض القوى السياسيّة والخارجيّة.
أحد أسباب انتفاضة 2011 يعود إلى تسارع هجرة الريف للمدينة فى سوريا والواقع أنّ الحرب أكملت هذا التسارع وخلطت المجتمع أكثر بكثير، حتّى فى مخيّمات أضحت مدنا. رغم ذلك، ما زال الحديث عن الهويّات حاضرا بقوّة. هذا فى حين يواجه المجتمع السوريّ اليوم استحقاق إعادة توحيد البلاد وتواجد قوى خارجيّة على أرضه، تدعم هذا الطرف أو ذاك، واستحقاق شكل الدولة التى تشمل الجميع وتحيّد صراعات «الهويّات» المستغلّ سياسيّا، داخليّا وخارجيّا. بل الأهمّ من ذلك إخراج أهل البلاد من الفقر الذى استشرى والذى لم يفرّق بين الهويّات ولا بين مناطق النفوذ.
الاستبداد لم يعُد مقبولا فى سوريا حتىّ لدى أولئك الخائفين من التطرّف. والتطرّف لم يعد أيضا مقبولا حتّى من أولئك الرافضين للاستبداد. وفشل المشاريع المبنيّة على هويّات جزئيّة دون غيرها ظهر أيضا جليّا حتى لدى المتعاطفين معها. كما أضحت تبعيّة بعض القوى للخارج واضحة.
إشكاليّة الاستحقاق السوريّ اليوم هى أنّه يجب أن يَبنى مستقبلا للجميع ويتعامل مع الواقع الموجود كما هو. بالطبع «المواطنة المتساوية والحريّات» هى الأساس. ولكن لا بدّ من التعامل مع واقع اليوم والتجارب المختلفة التى عاشتها المناطق المنفصلة عن بعضها البعض بإيجابيّاتها وسلبيّاتها على السواء.
***
بالطبع تشكّل معالجة الشقّ العسكريّ والأمنيّ محورا رئيسا لهذا الاستحقاق. إذ إنّ قوى الأمر الواقع المسلّحة هى التى تسيطر حقّا على الأرض، ومن خلفها قوى إقليميّة وعالميّة. إلاّ أنّ مشروع الخروج من الحرب والتشرذم يتطلّب أيضا برنامجا سياسيّا واقتصاديّا متكاملا وواضحا، خاصّة للفترة الأولى، وبالتحديد لأنّ «المعارضة السياسيّة» التى تفاوضت فى جنيف لم يكن لديها مشروع سوى استلام الحكم بدل السلطة الحاليّة دون الخوض حول كيفيّة التعامل مع الواقع ولأنّ السلطة القائمة لا ترى تفاوضا سوى عبر الخضوع لهيمنتها.
إنّ برنامجا كهذا يتضمّن تعاملا واقعيّاّ مع الهياكل المؤسّساتية والسياسيّة القائمة فى مختلف المناطق ضمن توافقٍ يأخذ إلى الاحتكام للانتخابات فى أمدٍ ليس طويلا، لكن يجب وضع أسسه مسبقا، كى يكفل مثلا عدم تسلّط المال السياسيّ عليها. كما يتضمّن خطوات اقتصاديّة أساسيّة ترفع ضنك عيش المواطنين، حتّى قبل رفع العقوبات الأحاديّة الجانب التى ستحتاج حُكما مداولات فى أروقة الدول التى فرضتها، ودون الانجرار إلى أوهام أنّ الأموال ستتدفق على البلاد حالما يحصل تغييرٌ ما. ويجب أن يتأسّس البرنامج على موقفٍ متوازنٍ من قوّات الدول الخارجيّة المتواجدة على الأرض السوريّة أكثر واقعيّةً من مطالبتها بالانسحاب جميعها وبشكلٍ فوريّ من الأرض السوريّة. على العكس يجب تحميلها جميعها متضامنةً مسئوليّة تنفيذ التزامها فى مجلس الأمن بوحدة وسيادة واستقلال سوريا.
هذا كلّه ضمن توافقات عامّة حول أسس سوريا المستقبل. وربّما لا يجب تسمية هذه الأسس «دولة مدنيّة» كما الطموح اللبنانيّ اليوم، بل دولة مساواة فى المواطنة والحريّات.. مع واحترام الخصوصيّات.
هذا قد لا يتحقّق غدا. ولكنّ الأوطان قامت على قلّة من النساء والرجال ناضلوا وصبروا فى زمن العواصف ولم ينجرّوا إلى أهوائها. وحافظوا على هويّاتها المركّبة جميعا وبقوا رموزا لتوافقاتها كإرثٍ ثريّ لبناء مستقبل وطن.. وليس لدكّانٍ، مهما كان حجمه. والمشاريع المستقبليّة قد لا يشهد تحقيقها حتّى أصحابها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved