الثعــــالب المســـــــلحة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 7 أبريل 2014 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

هناك فجوة عميقة بين «الأمنى» و«الحقوقى» فى النظر إلى الإرهاب ومستقبله والانتخابات الرئاسية وأطرافها.

التفكير الأمنى يعتمد على قوة الدولة لمواجهة الإرهاب وتنظيماته المسلحة ويجد نفسه مستهدفا والتفكير الحقوقى يستند على المعايير الدولية فى رفض الإقصاء السياسى ويجد نفسه مستهجنا.

فى الفجوة أزمة تعريف لطبيعة الأزمة المصرية. طرف يدمغ جماعة الإخوان المسلمين بالإرهاب وطرف آخر يدعو إلى إعادة دمجها فى الحياة السياسية دون أن تتوافر لغة سياسية تتسق مع الحقائق على الأرض من ناحية والمعايير الدولية من ناحية أخرى.

من وجهة النظر الحقوقية فإن «عدم الإقصاء هو القاعدة العامة أو المبدأ الرئيسى فى أية انتخابات حتى تستكمل معاييرها الدولية».. و«إذا كنا نتقاتل فسأقول لك إنك مجرم وتقول لى إننى قاتل» على ما يقول الخبير الإسبانى فى شئون الانتخابات «رافاييل لوبيز».

المبدأ العام لا يصح الخلاف عليه، فالدمج السياسى من مقومات استقرار المجتمعات والدول لكنه يتصادم بقسوة فى الحالة المصرية مع عنف الإرهاب وضرباته ومحاولاته تقويض الدولة.

من وجهة نظر أخرى أكثر شيوعا، فإن التهاون مع الإرهاب يفضى إلى خسارة الحرب كلها باسم معايير حقوقية ترى منظماتها الدولية أن (٣٠) يونيو انقلابا وأن الجماعة ليست إرهابية.

«لوبيز» نفسه أربكته حيرته ما بين المعايير الدولية الثابتة والتحولات وحقائقها التى يعاينها بنفسه على الأرض.. وحيرته زادت بالأنباء التى اخترقت الأبواب المغلقة لندوة نظمها مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية فى أحد الفنادق الكبرى عن انفجارات دوت على الجانب الآخر من النيل أثارت فزعا فى محيط جامعة القاهرة وأسقطت شهداء وضحايا وأغلقت الطرق بينما هو يتحدث عن عدم الإقصاء. هو رجل تلزمه أدواره المساعدة على إرساء القواعد الحقوقية فى الانتخابات وتدعوه الحقائق إلى قراءة المشهد المصرى على نحو جديد.

بعبارة لخصت حيرته قال: «نحتاج إلى تعريف من هى الجهات التى تقصى».

المفارقة ما بين دوى التفجيرات الدموية ودعوات الدمج السياسى تكشف عمق الأزمة وعبث معالجتها بالمواعظ الحقوقية خارج سياق الحقائق أو بالقبضات الأمنية بلا غطاء سياسى.

هناك جماعة خاصمت عصرها وتنكرت للوسائل الديمقراطية التى وصلت بها للسلطة واصطدمت مع مؤسسات الدولة التى أؤتمنت عليها وفرطت فى الأمن القومى بصورة لا سابق لخطورتها وتحالفت مع جماعات تكفيرية فى سيناء تنتسب إلى مدرسة «القاعدة» وتورطت فى العنف والإرهاب.

السؤال هنا: على أى أساس يجرى الدمج؟

من وجهة نظر «لوبيز»: «إن كانت حربا فإن الأسود تقصى الثعالب» دون أن ينظر بما يكفى إلى المعادلة على شمولها، فالإرهاب يستدعى الإقصاء ويقوض أى تفكير فى منفذ سياسى، وأن أية دولة فى العالم لا تقبل تهديد وجودها، وأن من متطلبات الدمج نبذ العنف والإرهاب وتصفية أية منظمات مسلحة والالتزام بمقتضيات الدستور التى تناهض من الأساس تأسيس دولة دينية وحساب كل من تورط فى عنف أو حرض على إرهاب. هذه هى القواعد التى تقرها القوانين والأعراف الدولية، فلا مكان لـ«ثعالب مسلحة».

لا يوجد إرهاب مجانى وما يطلبه الآن إرباك خريطة الطريق وإفشال السلطة الانتقالية واستهداف مؤسسات القوة وإثبات حضور الجماعة فى المشهد وأنها طرف لا يمكن إقصاؤه، لكن الطريقة التى يجرى التعبير بها عن الهدف الأخير تفضى إلى نتيجة مؤكدة عنوانها: «الإقصاء الكامل».

بخبرته فى نزاعات مسلحة أخرى فإنه يقيس على تجربتى «الباسك» فى إسبانيا و«الجيش الجمهورى» فى أيرلندا الشمالية، والقياس قد يفيد فى استخلاص بعض الدروس الضرورية لكنه يفتقد المقاربة المناسبة للحالة المصرية، فالأولى عبرت عن نزاع قومى والثانية استندت على نزاع مذهبى بينما ما يجرى هنا نزاع من نوع آخر لا هو قومى ولا هو مذهبى، نزاع على «الشرعية» و«طبيعة الدولة» لُوح فيه من على منصة «رابعة العدوية» بحرق مصر والاحتراب الأهلى إذا ما عزل «محمد مرسى» واستخدم السلاح بعدها. بعد وقت يطول أو يقصر وكأى نزاع آخر فإن هناك منفذا سياسيا فى نهاية المطاف فلا توجد نزاعات مؤبدة.

ما طبيعة المنفذ السياسى المحتمل على مدى طويل نسبيا؟

هناك احتمالات لتشققات فى الجماعة بين تكفيريين جدد وإصلاحيين يخرجون من قلب المأساة الأكبر فى تاريخها والصياغة الأخيرة تتوقف إلى حد كبير على طبيعة التفاعلات داخلها. وهذه الاحتمالات لا تستبعد دمجا ممكنا لقطاعات من الجماعة فى الحياة السياسية وفق الأسس الدستورية وقواعد حقوق المواطنة. وفى فكرة الدمج الإصلاحى إقرار بأن جماعة الإخوان المسلمين لا تلخص التيار الإسلامى ولا كل من انتسب إليها أو تأثر بفكرها إرهابيا.

فى الحقائق الأساسية فإن الأغلبية الساحقة من الرأى العام المصرى تميل بقوة إلى الحلول الأمنية تحت ضغط الضجر من العنف والجماعة التى تحرض عليه وتنخرط فيه ساعية إلى إنهاك الاقتصاد وشل الدولة.

الحل الأمنى عليه طلب شعبى، وهذا يسد الطرق على أية منافذ سياسية فى أى مدى منظور. فكرة المصالحات السياسية تقوضت وباتت سيئة السمعة فى مجتمعها. ورغم ما تسرب عن المرشح الرئاسى «عبدالفتاح السيسى» من إشارات عن حل سياسى لم تتضح معالمه حتى الآن، فإن هذا التوجه الآن فوق طاقته أو طاقة غيره، فالأوضاع أكثر تعقيدا فى مستوياتها الداخلية والإقليمية والدولية من أن يجرى تجاوزها بمعادلات سياسية مثل: «العفو» مقابل «السلاح» كالتى جرت فى الجزائر بعد عشريتها السوداء، قد نصل فى مصر إلى مثل هذه المعادلة لكنها قد تستغرق عامين إضافيين على أقل تقدير.

أما الآن فإن التصعيد هو العنوان الرئيسى للصراع، والتوقعات المتواترة تشير إلى أن عمليات العنف والإرهاب سوف تصل مداها فى الانتخابات الرئاسية وقبلها وأن ضحايا جددا سوف يسقطون.

رائحة الدم فى المكان تطرح سؤالا ضاغطا على الرأى العام: إلى متى؟

السؤال نفسه نقطة تحول جديدة فى الخريطة السياسية الحالية، فالضجر من العنف والجماعة التى تحرض عليه وتنخرط فيه يفضى بحقائقه إلى رفع نبرة انتقاد مستويات الأداء الأمنى وإخفاقه النسبى فى ملاحقة الجماعات المسلحة وإجهاض مخططاتها قبل أن تصل إلى أهدافها.. ويفضى بتداعياته إلى شبه إنهاء لأى كلام سياسى عن مصالحة افتراضية والدعوة إلى اجتثاث الجماعة بلا هوادة وبغض النظر عن أية قواعد قانونية أو أخلاقية، والاحتمال الأخير هو الأكثر ترجيحا الآن.

بصورة أو أخرى فإنه لا يوجد جسر سياسى يصل ما بين ما هو حقوقى وما هو أمنى.

فى هوس الجماعة بالقوة وعزلتها عن مجتمعها مشروع انتحار تاريخى كامل، فالحرب مع الدولة خاسرة سلفا والصدام مع المجتمع نتائجه محسومة وقد أفضت تظاهراتها المسلحة التى انفلتت عن أية سلمية إلى أبشع النتائج، ومن بينها أن يكون طلب دخول قوات الأمن إلى حرم الجامعات التى انتهكتها شعبيا وكاسحا يوافق عليه أساتذة الجامعات الذين ناهضوا طويلا الحرس الجامعى، وأن يرفع طلابها أعلام القاعدة يسحب عنها أية أحقية فى إعادة دمجها السياسى.

لا دمج ممكنا بأية معايير سياسية أو أخلاقية لـ«الثعالب المسلحة».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved