المنقلبون

امال قرامى
امال قرامى

آخر تحديث: الثلاثاء 7 أبريل 2015 - 9:20 ص بتوقيت القاهرة

لا حديث فى تونس، هذه الأيام، إلا عن «المصالحة» بين مختلف الأطياف والتيارات السياسية، فهى شرط ضرورى لاستكمال مسار بناء الجمهورية الثانية، حسب الفاعلين السياسيين أصحاب التصورات، والحلول. ولعل قياديى حزب النهضة من أكثر المتمسكين بمبدأ المصالحة شعارهم فى ذلك «عفا الله عما سبق». بيد أن عددا من قيادات الجبهة الشعبية، وحزب المسار، وغيرهم، فضلا عن عموم التونسيين المتفاعلين عبر شبكة التواصل الاجتماعى، لا ينفكون عن الاعتراض على محاولات طى صفحة الماضى، شعارهم فى ذلك «إن كنت ناسى أفكرك» و«أسمع كلامك أصدقك أشوف أفعالك أستغرب».

والغريب فى الأمر أن الذين كانوا يعتلون المنابر، ويخطبون فى الجماهير ويحاولون التأثير فى الجماهير، ويؤسسون الشبكات لتسفير الشباب إلى سوريا أو يستضيفون دعاة الفتنة انقلبوا على أعقابهم فمشوا فى مسيرة باردو المنددة بالإرهاب فكانوا فى الصفوف الأمامية. إنهم اليوم يسارعون بالحديث عن مخاطر الإرهاب، وسبل الحد من الظاهرة، وضرورة ترشيد الخطاب الدينى، ويدافعون عن وسطية الإسلام، ويدعون إلى وحدة الصف، ويحذرون من نتائج التفكك الاجتماعى. يكفى أن نتوقف عند مثال «داعية» أطل علينا بعد الثورة يخطب فى الساحات، والمساجد، والسجون، ومنابر الإعلام وحتى فى حضرة المرزوقى فى قصر قرطاج مُتصدرا للفتيا، مُبديا القول الفصل فى أمور الشرع. إنه الداعية البشير بن حسن، الذى أعلن منذ أيام أنه ضد الإرهاب، ونفى أن يكون من المحرضين على الجهاد فى سوريا، وغاب عن ذهن الداعية أو تناسى أن للإنترنت ذاكرة أرشفية تخزن «ما لذ وطاب» من الفيديوهات، والصور وغيرها. ولذلك كلما نفى قيادى صلته بالإرهاب أو تورطه فى ما يساعد على تغلغل الفكر المتطرف إلا ونبش أهل الفيسبوك فى الأرشيف فأخرجوا النفائس وقدموها دَيدنهم فى ذلك: هاتوا برهانكم إن كنتم من المكذبين. فالبشير بن حسن فى تسجيل لا غبار عليه، كان يخطب فى المسجد داعيا إلى «الوقوف بجانب إخوتنا السوريين ومساندتهم بالمال والدم، والنفس والجهاد فى سبيل الله فهو واجب على المسلمين». فأنى للمرء أن يتحدث بعد كل هذا عن «الشيوخ» و«رجال الدين» و«حفظة القرآن» و«علماء الأمة» و«أئمة المنابر»، ويعتبرهم القدوة؟

•••

الطفرة الجيلية تجعل هؤلاء الشيوخ (بمفهوم السن لا العلم) يقعون فى الجب. فهم يجهلون ما للإنترنت من سلطة إذ أضحت عاضدة للذاكرة البشرية تسعفها بالحجج والبراهين كلما ضعفت، ومن ثمة فهى الشاهدة والبينة، والبرهان. وبناء على ذلك يتساءل رافضو فكرة «المصالحة» كيف يتسنى للتونسيين أن يمارسوا النسيان، وذاكرة الحواسيب حبلى بالإثباتات؟ ولذا يلح هؤلاء على أنه لا إمكانية للمصالحة قبل الاعتراف بالمسئولية السياسية والأخلاقية عن الأخطاء المرتكبة فى فترة الترويكا، على وجه الخصوص، فى حق الوطن، والشعب ثم الاعتذار.

ولكن يبدو أن القيادات مازالت راغبة فى التموقع فى خط الدفاع (الغنوشى، والهارونى،...) وأحيانا فى خط الهجوم (وزير الصحة سابقا عبداللطيف المكى) مُتعنتة، ترفض تبرير الأخطاء المرتكبة، وبيان سوء التقدير، وقلة الخبرة... وإظهار حسن النية. وطالما أن القيادات التروكية تتنصل من مسئولياتها وترفض المصارحة فإنه لا جدوى من الحديث عن الوحدة الوطنية المقدسة، والمصالحة، وبناء الثقة، فـ«صدقية» الممارسة مفقودة.

قياديو المرحلة الراهنة يُديرون المرحلة بآليات مازالت مشدودة إلى نظم معرفية تقليدية عصية على التغيير تأبى الإقرار بأهمية مصطلحات فرضها السياق الثورى كالمساءلة والمحاسبة والشفافية... ومن ثمة فإن هؤلاء يسوسون البلاد والعباد بالتعويل على الدهاء، والمكر والخداع والمراوغة، يغيرون المواقف، ويتنكرون للوعود، ويعبثون بالميثاق.... ويطلبون من الشعوب أن تنسى أو تتظاهر بالنسيان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved