عولمة التعليم العالى العربى

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 7 أبريل 2016 - 11:05 م بتوقيت القاهرة

عبر العشرين سنة الماضية فوجئ المواطن فى الأرض العربية كلها، بتدفق سيل متصاعد ومتنوع من برامج ومؤسسات وشبكات التعليم القادمة على الأخص من الغرب فى البداية، ولكن القادمة من الشرق أيضا فى الآونة الأخيرة. إنه هجوم يشمل كل مراحل التعليم، ممتدا من الروضة إلى الدراسات الجامعية العليا. وهو لا يتواجد فقط فى دول العسر الاقتصادى، حيث لا تستطيع الدولة تحمل عبء وتكاليف التعليم المتنامى فى الكم والتنوع، وإنما يتواجد أيضا، وبقوة، فى دول اليسر والفوائض المالية.

إن جزءا كبيرا من سبب اتساع هذه الظاهرة وانتشارها المبهر بدأ بتوقيع الحكومات العربية على اتفاقات التجارة الحرة، ومن ضمنها حرية التجارة فى الخدمات، بما فيها خدمات التعليم، تلك الاتفاقات التى فرضتها قوى العولمة الرأسمالية النيوليبرالية على العالم النامى من خلال جبروت وابتزازات منظمة التجارة العالمية.

هل يقف الأمر عند هذا الحد أبدا، ففى حين أن دولا مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا رفضت أن تشمل اتفاقية حرية تجارة الخدمات حقل التعليم فى بلديهما، واعتبرتا التعليم شأنا وطنيا سياديا لا يترك للأغراب ولا لتأثيرات الخارج، فإن الدول العربية كالعادة انصاعت للأمر دون تحفظ وفتحت الأبواب للخارج.

هذا بالرغم من أن الحكومات العربية تدرك جيدا أن اختلاط الخارج بالداخل، فى حقل حساس ومعقد كحقل التعليم، سيخلق ألف إشكالية فى مجتمعات تتصف بضعف الرقابة الرسمية وبانتشار المحسوبية والفساد وبالاستهتار بالقوانين.

***
لضخامة وتعقد الموضوع دعنا نقصر الحديث اليوم على التعليم العالى. ولنبدأ بالتأكيد على أن أغلب برامج ومؤسسات التعليم الخارجية غلبت على تأسيسها وتنظيمها الصبغة التجارية الربحية، سواء من خلال شراكاتهم مع تجار محليين ومع جامعات خاصة ربحية، أو من خلال تسهيلات كثيرة قدمتها الحكومات لتقلل من مصاريف تلك المؤسسات وتجذبها للمجىء، أو من خلال تشجيع ودعم مباشر وغير مباشر من قبل حكومات وبعض منظمات بلدان تلك المؤسسات لتساهم فى تغيير ثقافة المنطقة العربية من أجل تسهيل مهمات المشروع الصهيونى، وإدماج بلاد العرب ذهنيا وسلوكيا فى ثقافة العولمة الاستهلاكية المسطحة، وتهيئة البعض للانخراط فى موجة هجرة العقول العربية إلى الخارج، والقيام بأبحاث ظاهرها البراءة وباطنها خدمة مؤسسات الاستخبارات أو مؤسسات واضعى استراتيجيات تأجيج الصراعات والانقسامات فى بلاد العرب المستباحة.

ليس الموضوع رفض الانفتاح على الآخر والتعلم منه ومن منجزاته الكثيرة، والتعاون معه بندية فى شتى حقول المعرفة، فهذا ما لا يمكن أن يخطر على البال. وإنما نحن هنا معنيون بالآتى:

أولا – سلعنة (من السلعة) التعليم العالى بقصد إدارته على شاكلة المؤسسات التجارية وتداول أسهمه فى البورصات المالية وتحقيق أرباح متصاعدة للمساهمين. من هنا ظهور شركات إعلام لتسويقه، وشركات دولية لتمويله، ودخول بعض شركات الإلكترونيات والسيارات فى أسواقه، والحبل على الجرار، إذ قد نرى فى المستقبل جامعات تملكها سلسلة مطاعم الوجبات السريعة. ولن يطول الزمن لنصل إلى أن يصبح ذلك التعليم تعليما لنخب الغنى واليسر، عسيرا على قدرات الملايين من محدودى الدخل، وليكون التعليم أداة من أدوات اللامساواة بعد أن كان فى الماضى القريب أداة من أدوات الصهر والحراك الاجتماعى.

ثانيا – هناك إشكالات أكاديمية وثقافية بالغة الخطورة. ولقد كتب الكثير عن إشكالية إعطاء الأولوية للغات الأجنبية واستعمالها كوسيط لتدريس أغلب المواد العلمية التخصصية، بل وكثير من مقررات العلوم الاجتماعية والإنسانية والتاريخية والأدبية. وبالطبع فإن ذلك يتم على حساب اللغة العربية، الوعاء الفكرى لثقافة العرب، والذى يؤدى إلى انفصال كثير من طلبة تلك الجامعات عن منابع ومصادر ثقافة أمتهم، والذى أيضا بدوره يؤدى إلى ضعف فى الهوية الوطنية والقومية العروبية.

وينطبق الأمر على محتويات المواد الاجتماعية والإنسانية التى غالبا ما تكون حول فكر وتاريخ وقضايا ومناهج مجتمعات الدول التى تنتمى لها تلك الجامعات الأجنبية، وبالطبع بإهمال واضح لفكر وتاريخ وتراث وقضايا أمة الطالب العربية، مما يزيد فى مذبحة الثقافة العربية فى فكر ووجدان الطلاب العرب المتخرجين من تلك الجامعات وفى عيشهم بعد ذلك فى غربة ثقافية مفجعة.

***
نحن أمام موجة من عولمة التعليم العالى العربى الذى قد يؤدى إلى فقدان الأمن الثقافى العربى، ليضاف إلى فقدان الأمن العسكرى والغذائى والاقتصادى والسياسى فى أرض العرب المستباحة.

ما تحتاج حكومات أمة العرب أن تعيه، قبل فوات الأوان، هو أن الجامعات هى أهم مصدر لتخريج علماء المستقبل فى الحقول التى تهم الأمة وترتبط بحاجاتها التنموية الحقيقية، وهى من أهم المؤسسات للقيام بالدراسات والبحوث المرتبطة بقضايا المجتمعات العربية الحالية والمستقبلية، وهى فى طليعة المؤسسات المعنية بتجديد ثقافة الأمة لإخراجها من تخلفها الثقافى التاريخى، وهى المصدر الأهم لإعداد قوى عاملة رفيعة التدريب والقدرة على استعمال المعرفة فى قيادة المؤسسات والشركات، وهى بالتالى أهم مؤسسة لبناء المستقبل.

فإذا سلمت تلك الحكومات وظيفة التعليم العالى ليقوم بها الخارج، فهل تضمن أن تقوم مؤسسات الخارج بتلك المهمات الجسيمة التى ذكرناها، وبالطريقة والمقدار والالتزام الذى يخدم مجتمعاتها وثقافتها ومستقبل أجيالها؟

نخلص إلى أن نطرح السؤال التالى: متى ستعقد قمة عربية تخصص لدراسة أوضاع التعليم العالى وأوضاع البحث فى الوطن العربى من خلال نظرة قومية تكاملية وتعاونية وتنسيقية فيما بين الجامعات العربية، ومن أجل إيقاف تسليم التعليم العالى للخارج؟

اليوم، والحكومات العربية ترى أمامها مقدار الدمار والفواجع التى نتجت عن تسليم حقول السياسة والاقتصاد والأمن إلى الخارج، هل ستتعلم الدرس بالنسبة لحقل التعليم؟
مفكر عربى من البحرين

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved