الصراع المعلق فى سوريا يفسر انسحاب روسيا الجزئى

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الخميس 7 أبريل 2016 - 8:55 ص بتوقيت القاهرة

استمر الانسحاب العسكرى الروسى الجزئى من سوريا الذى أعلن عنه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فى إثارة قدر كبير من التعليقات. وهنا تبرز ثلاثة تفسيرات لهذا الانسحاب. أولها يرى أن بوتين يهدف إلى تقليل الخسائر الروسية، وهو رأى ردده أعضاء المعارضة السورية التى صورت الانسحاب، باعتباره نتيجة لمقاومتها المسلحة، على الرغم من أن هناك القليل من الأدلة على هذا الادعاء. التفسير الثانى، والذى يشير فى شكل صحيح إلى أن روسيا تحتفظ بقوة قتالية كبيرة فى سوريا يمكن زيادتها بسهولة من جديد، يقول إن دافع بوتين الأساسى هو «لى الذراع»، سواء بالنسبة إلى الولايات المتحدة أو الرئيس بشار الأسد، من أجل فرض قبول الشروط الروسية، للتوصل إلى اتفاق سلام ينهى الصراع السورى. وهناك رأى ثالث يقول إن بوتين حقق أهداف السياسة الخارجية والداخلية التى شجعت على التدخل فى سوريا، وهو مكتفٍ بالمكاسب التى جناها.

وثمة تفسير بديل يقول إن بوتين لا يرى أن التوصل إلى اتفاق سلام فى سوريا وشيك، وهذا ما جعل اتخاذ الخيار فى شأن إمكانية وكيفية مواصلة التدخل العسكرى الروسى أمرا صائبا وضروريا. ذلك أن فرض الشروط الروسية للتوصل إلى اتفاق على الولايات المتحدة وغيرها من الداعمين الخارجيين للمعارضة السورية يتطلب تصعيدا ملحوظا للتدخل، الأمر الذى يكبد روسيا تكاليف مادية ومخاطر مواجهة جيوسياسية تفوق ما يبدو بوتين على استعداد لقبوله. بيد أن من الواضح أن الإبقاء على المستوى السابق من العمليات القتالية إلى أجل غير مسمى من دون توقع واضح، بتحقيق نتائج سياسية إضافية لا معنى له أيضا. والواقع أن مثل هذا الأمر ينطوى على خطر تبديد أى صدقية اكتسبتها روسيا نتيجة ترتيب الإطار الدبلوماسى، الذى ربما يكون قابلا للتطبيق، الوارد فى بيان فيينا فى 14 نوفمبر 2015، ووقف الأعمال العدائية الذى دخل حيز التنفيذ فى 27 فبراير 2016.

وفقا لذلك، فإن الانسحاب الجزئى من سوريا يعيد تموضعا روسيا عسكريا ودبلوماسيا، للحد من التكاليف إذا ما ظلت التسوية السياسية لإنهاء الصراع غير قابلة للتحقيق، فى الوقت الذى يزيد قوة تحملها وقدرتها على الاستمرار فى تشكيل الأحداث على الأرض والاستجابة بمرونة للتطورات المستقبلية، بغض النظر عن الشكل أو الاتجاه الذى تتخذه تلك التطورات.

فى المقابل، إذا كان بوتين يعتبر أن فرص تحقيق تسوية سياسية ضعيفة فى الوقت الحاضر، فإن مرد ذلك جزئيا إلى أنه اكتشف حدود النفوذ الروسى على الأسد وبقية نظامه. فقد تباهى النظام مرارا بسيادته واستقلاله قبل ومنذ إعلان وقف الأعمال العدائية فى 22 فبراير، أولا عبر الإعلان بأن الانتخابات البرلمانية ستجرى فى 13 هذا الشهر، فى تحدٍ للشروط والجدول الزمنى المنصوص عليه فى بيان فيينا، ومن ثم عبر الإصرار على أن وضع الأسد غير قابل للتفاوض، وأن الحكومة تسعى لتحقيق نصر تام ولن تتحدث إلى من ترى أنهم إرهابيون، وتقصد بذلك المعارضة السورية.

وإذا كان بوتين يأمل بإقناع الأسد بأخذ التنازلات التى من شأنها المساعدة فى التوصل إلى اتفاق سلام بوساطة روسية بعين الاعتبار، فإن الانسحاب الجزئى الروسى ليس مقدمة لهذه المحاولة، كما قال البعض، بل هو انعكاس لفشلها.

***

ما من شك فى أن الأسد يعتقد أن بوتين لا يمكنه أن يقلل الدعم الروسى لنظامه بصورة كبيرة، ناهيك بإنهائه، من دون أن يخاطر بصورة حقيقية بإسقاطه تماما. ومن الواضح أن هذا من شأنه تقويض هدف روسيا الرئيس فى سوريا وتبديد كل المساعدة العسكرية والاقتصادية التى أرسلت إلى النظام منذ العام 2011. ومن الواضح أن بوتين لا ينوى التخلى عن النظام، غير أن من المستبعد أيضا أن ينجح أى أمل لديه باستخدام علاقة روسيا القديمة مع الجيش السورى للفوز بدعمه واكتساب القدرة على التأثير فى الأسد. ذلك أن هيكل القيادة الرسمى الذى تتعامل معه روسيا لا يمارس سلطة فعلية على القطعات العسكرية بقدر ما تمارس شبكات النظام الموازية داخل الجيش، ولذا فهو يتمتع بقدر ضئيل من الاستقلالية ولا يمكن أن يوفر لروسيا وسيلة للتأثير.

ومن المفارقات أنه لا يمكن لروسيا تحقيق المزيد فى سوريا من دون النفوذ والموارد الإضافية التى يمكن أن تستثمرها الأطراف الخارجية الرئيسة الأخرى: إيران التى تقف إلى جانب النظام، ولكن أيضا الولايات المتحدة وتركيا والسعودية. ويصح ذلك بخاصة اذا اقتنع بوتين بضرورة إيجاد صيغة تضمن رحيل الأسد فى نهاية المرحلة الانتقالية. غير أن اهتمام الأطراف الخارجية الأخرى، مثل روسيا، يتركز بصورة متزايدة على تحديات أخرى، بما فيها داعش.

وهذا يبقى سوريا فى حالة من «الصراع المعلق» حيث يرجح أن يصمد وقف الأعمال العدائية خلال الأشهر المقبلة، بالتوازى مع محادثات السلام فى جنيف التى من شبه المؤكد أن تبقى متقطعة رغم أن المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دى ميستورا عبر عن أمله علنا بالانتقال من مناقشة المبادئ إلى مناقشة موضوعات سياسية فعلية.

السؤال إذا هو ما إذا كانت الديناميات السياسية والاتجاهات العسكرية داخل سوريا ستتطور فى هذه الأثناء بطرق تؤثر فى التوازن العام. والواقع أن الجماعات المسلحة الموالية لداعش فى جنوب سوريا انتقلت إلى الهجوم لتوسيع منطقة سيطرتها فى القرى الواقعة إلى الغرب والشمال من درعا عاصمة المحافظة. وقد استعادت قوات النظام مدينة تدمر الصحراوية، وهو ما يعتبر مكسبا مهما، ويمكن أن تسعى لمواصلة الاندفاع نحو الجيب المحاصر حول مدينة دير الزور فى الشرق، أو الضغط على المعاقل الباقية لـداعش إلى الشرق من حلب فى شمال البلاد. وقد رد حزب «الاتحاد الديمقراطى» الكردى على استبعاده من محادثات جنيف بالإعلان عن نيته إعلان إقليم فيديرالى، وهو يتنافس مع النظام وداعش والمعارضة السورية لتشكيل تحالفات مع العشائر العربية فى شمال وشمال شرقى سوريا.

التقدم «أو عدمه» فى الحرب ضد تنظيم داعش فى العراق، سوف يؤثر أيضا فى التطورات فى سوريا. النجاح سيميل لمصلحة نظام الأسد، من خلال منحه ميزة عسكرية نسبية على طول خطوط مواجهته الطويلة مع التنظيم، ولكن إذا تعطلت الحملة ضد داعش فى العراق فإن ذلك سيبقى سوريا فى وضعها الحالى، والذى يميل أيضا لمصلحة النظام. وفى الوقت نفسه، يواصل النظام الضغط على المناطق المحاصرة فى سوريا، وخصوصا جنوب دمشق وشمال حمص، كى تذعن للهدنات المحلية التى تبقى جماعات المعارضة المسلحة فى مكانها ولكنها تحرر وحدات الجيش كى تنتقل إلى جبهات أخرى. وسيعمل الأسد على تعزيز زعمه بأنه يعمل على تهدئة الأوضاع فى البلاد وتحقيق المصالحة، وتأتى الانتخابات البرلمانية المقبلة فى هذا السياق أيضا. وعلى العكس من ذلك، تعتمد المعارضة بصورة كبيرة على تقدم محادثات السلام التى لا يلتزم بها النظام بصورة حقيقية، وهى، أى المعارضة، مهددة بفقدان المبادرة السياسية والعسكرية.

***

بناء على الاتجاهات الحالية، سيظل نظام الأسد متقدما قليلا، كما كان دائما منذ بداية الأزمة السورية. غير أن ذلك لم يكن كافيا لتحقيق النصر التام على المعارضة الذى لا يزال يسعى إليه، ولا لدفع الولايات المتحدة إلى الدخول فى شراكة غير مشروطة ضد داعش تبقى الأسد فى الرئاسة والسيطرة الكاملة على الجيش والأمن فى يديه. على العكس من ذلك، وحتى مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية واحتمال مجىء إدارة أكثر حزما إلى الحكم، تبدو الولايات المتحدة أقل احتمالا من أى وقت مضى لبذل الجهد الدبلوماسى الكافى، ناهيك بالتدخل العسكرى، لفرض اتفاق سلام أفضل. وبما أنه ليس لدى الولايات المتحدة ولا روسيا من مصالح استراتيجية تدفع أيا منهما لكسر الجمود الذى سينتج مجددا، فيبدو دخول سوريا فى حالة الصراع المعلق مؤكدا.

يزيد صايغ

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved