مشروع الدولة السعودية الجديدة

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 7 أبريل 2018 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

أى مهتم بالنظام الإقليمى فى المنطقة العربية وفى الشرق الأوسط لا بد أنه يتابع ما يحدث من تطورات داخلية فى المملكة العربية السعودية منذ ثلاث سنوات. هذه التطورات ارتبطت فى الأذهان بالصعود المتدرج على سلم السلطة لولى العهد الحالى، الأمير محمد بن سلمان. التطورات من تمكين المرأة من بعض الممارسات البديهية مثل قيادة السيارات أو حضور المباريات الرياضية إلى افتتاح دور للسينما ووسائل الترفيه الأخرى تكشف عن توجهات مستجدة للنظام السياسى السعودى، يضاف إليها رؤية 2030 التى تهدف إلى تحقيق تنمية فى السعودية تنوّع اقتصادها وتحدّ من اعتمادها على النفط. بعض التحركات الخارجية ترتبط بالتطورات الداخلية فى السعودية. من ذلك زيارة الأمير محمد بن سلمان عند وجوده فى القاهرة فى الشهر الماضى لبطريرك الكرازة المرقسية، البابا تواضروس الثانى فيما أراده تعبيرا عن قبوله للآخر المختلف دينيا، وهو شىء ليس بقليل فى النظام الثقافى ــ السياسى السعودى وله آثاره على علاقات السعودية بالجماعات المتطرفة دينيا فى بلدان العالم الإسلامى، ومنها مصر.

***

هذه التطورات تنبئ عن مشروع للتغيير، ولكن المراقب المهتم، ولكى يجرى ولو تحليلا أوليا له وللكشف عن منطقه وما فيه من تناقضات ممكنة فى حاجة إلى نص مكتوب يعرض فلسفة التغيير ونظرة القائمين عليه لتحقيقه وللعالم الذى يندرجون فيه. مثل هذا النص غير موجود. لم يصل التغيير بعد فى السعودية إلى إصدار دستور أو أى وثيقة فكرية تكون سندا فلسفيا للتغيير. غير أن الزيارة الطويلة الحالية التى يقوم بها الأمير السعودى للولايات المتحدة، وهى تحرك خارجى يهدف إلى مساندة المشروع الداخلى بتقديم السعودية بشكل يروق لأصحاب القرار والرأى العام الأمريكيين، هذه الزيارة سبقها وصاحبها عدد كبير من المقابلات الصحفية والتليفزيونية معه. من بين هذه المقابلات، تبرز مقابلتان واحدة مع مجلة «تايم» الأسبوعية، والأخرى إضافية بشكل خاص مع مجلة «ذى أتلانتيك» الشهرية. بالإضافة إلى معلومات من هنا وهناك، نستفيد من المقابلتين لتبين كنه مشروع الأمير للدولة الجديدة، وتفسيره لتاريخ السعودية.

هو لم يقل ذلك ولكن جوهر المشروع هو تقديم السعودية على أنها دولة وطنية تتطلع إلى التحديث الشامل. التطرف الدينى وتشجيع الجماعات المتطرفة ليسا من طبيعة السعودية بل هما كانا، فى رأى الأمير السعودى، نتيجة للوضع الدولى. تمويل التطرف كان بسبب أجواء الحرب الباردة، وبحث من الولايات المتحدة ذاتها لمواجهة الشيوعية التى كانت تحقق تقدما فى كل مكان، بما فى ذلك فى مصر. وهو يعتبر أن عام 1979 كان حاسما لأنه عام الثورة الإسلامية فى إيران، وهو أيضا العام الذى حاصر فيه متطرفون من أهل السنّة واقتحموا الحرم المكى. لا يمكن أن يُفهم من اعتباره 1979 عاما حاسما إلا أن السعودية اضطرت إلى تمويل التطرف الفكرى السنّى بعده لمواجهة التطرف الشيعى للثورة الإيرانية، من جانب، وتحت ضغط التطرف السنّى وللمزايدة عليه، من جانب آخر. يريد الأمير السعودى أن يضع حدّا لتشجيع السعودية للتطرف، فالتطرف ليس فى طبيعة السعودية بل إنه لا يعلم ما هى «الوهابية» التى يزعم البعض أنها المذهب الذى تستند إليه وتروج له. الأمير السعودى يشدد على أنه لدى أهل السنة مذاهب أربعة فقط ممثلة كلها فى هيئة كبار العلماء السعودية، بالإضافة إلى أنه يوجد بين المسلمين سنة وشيعة. فى السعودية الشيعة يعيشون بشكل طبيعى، ولا توجد أى مشاكل لنا معهم، ومنهم الوزير، ورئيس أكبر جامعة ورئيس أكبر شركة فى العالم. السعودية تعتبر أن الإسلام قد انتشر وأن زمن الدعوة قد انتهى. فى حديث الأمير السعودى ترتسم معالم «الوطن» الذى يعيش فيه «مواطنون» على قدم المساواة أيا كان الاختلاف فى معتقد كل منهم، وهذا هو النموذج المثالى للدولة الوطنية. لعل الاحتفاء بالعيد الوطنى للسعودية والاحتفال به على نطاق واسع بتخطيط من الدولة، وعلى الرغم من تحريم الجماعات المتطرفة لنفس مفهوم «العيد الوطنى» وللاحتفال به، بيان على جوهر مشروع الدولة السعودية الجديدة. بيان آخر هو إحالته إلى ميثاق الأمم المتحدة كأساس لبناء علاقات جيدة مع الدول الأخرى فى ظل تركيز كل منها على مصالحها الخاصة بها.

المواجهة مع ثلاثى الشر، النظام الإيرانى، وهو الشر المطلق، والإخوان المسلمين، والجماعات الإرهابية، هى مواجهة بين الدولة الوطنية، وليست الدينية، السعودية والتحركات عبر الوطنية. النظام الإيرانى يريد أن تنتشر دعوته الشيعية فى العالم، وأن يسود الإسلام على إثرها الولايات المتحدة نفسها. والإخوان المسلمون يبغون استغلال الآليات الديمقراطية لبناء امبراطورية إسلامية فى العالم أجمع. و«داعش» والقاعدة تريدان فرض كل شيء بالقوة. الله والإسلام لا يريدان منّا أن نفعل أى شيء من كل ذلك.

التغيير فى النظام الثقافى ــ السياسى الذى تعبر عنه «الحريات» التى اكتسبتها المرأة وإجراءات السياسة الترفيهية ضرورية لأن طموح التحديث الاقتصادى الشامل ليس ممكنا بدون أساس ثقافى واجتماعى، من جانب، ولأننا نريد أن نكون جزءا من الهوية العالمية، من جانب آخر. هنا رغبة فى استقاء شرعية المشروع من القيم العالمية، ويبدو فيها تناقض مع ما شدد عليه الأمير من اختصاص كل دولة بمصالحها وحدها.

***

لا بدّ أن يكون لمن يندرجون فى صفوف الإسلام السياسى على اختلاف مدارسهم مواقف من حديث ولى العهد السعودى، ولكن التعليق هنا من منظور مصرى تعددى وديمقراطى. إدراك ولى العهد لضرورة مشروع جديد للدولة فى محله؛ لأن النظام السياسى بمعناه الواسع الذى لا يتجدد فى بلد مرّ بتطورات اقتصادية وديموغرافية واجتماعية وتعليمية هائلة محكوم عليه بالسقوط، خاصة إن كان جيل الحكام قد شاخ وأوشك على الانزواء تماما. غير أن تفسير الأمير السعودى لنشأة الدولة السعودية الأولى والثانية مغاير لما ذهب إليه السابقون. التاريخ المستقر يعتبر أن آل سعود قد اعتمدوا دعوة محمد بن عبدالوهاب وتفسيرات رعاتها من بعده سندا أيديولوجيا لدولتهم. لا بأس من أن يُسقِطَ المشروع الجديد هذا السند الأيديولوجى وهو إسقاط وللحق لم تواجهه صعوبات حيث لم تجد هيئة كبار العلماء المتزمتة غضاضة فى قبول إجراءات السياسة الثقافية الجديدة. ولكن عِوَضا عن تبرير التطرف بمجرد الحرب الباردة والثورة الإيرانية، فإن النقد الذاتى ضرورى لكى تكون للبناء السعودى المعدّل فرصة الاستواء. لم تكن مساندة التفسيرات المتطرفة بطلب من الولايات المتحدة وحدها بل كانت جزءا من إشعاع القوة السعودية المكتسبة بفعل الدخل النفطى فى العالمين العربى والإسلامى. زعم الأمير السعودى أن الملك فيصل دفع حياته ثمنا لمواجهة الفكر المتطرف ولكن الملك فيصل قُتِلَ فى سنة 1975 قبل سنوات أربع من سنة 1979 الحاسمة فى رأيه وسنوات ثلاث من الغزو السوفيتى لأفغانستان ونشر التطرف كأداة فى الحرب الباردة.. الستينيات فى مصر كانت بالتأكيد سنواتِ سلطويةٍ وإرهاصات اشتراكية، ولكن لا يمكن أن يصفها أى محلل بأنها كانت عقدا اتسم بالحكم الشيوعى.

***

مشروع الدولة الجديدة لا بدّ أن يكون فى قلبه نظام الحكم. الأمير يستبعد الديمقراطية وأن يحكم الناسَ ممثلوهم المنتخبون. هو يدافع عن الملكية المطلقة ويذكر ضمن فضائلها وقوف الملكية الفرنسية المطلقة فى القرن الثامن عشر إلى جانب استقلال الولايات المتحدة!! وهو يروّج لمفهوم الملكية القبلية كما فعل فى القاهرة على عهدة بعض من حضروا لقاءً معه. دولة وطنية متنوعة ومعقدة ومتقدمة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا كالتى ترتسم فى المشروع الجديد لا يمكن تحقيق الاستقرار فيها وصيانة وحدتها إلا بتوزيع السلطة فيها. البديل هو القمع، وللقمع حدوده. هذا تناقض آخر فى المشروع.
تناقض ثالث هو ما ذكره ولى العهد عن وجود عشرة ملايين أجنبى فى السعودية دليل على انفتاحها، وأنهم مرشحون للزيادة ليشتركوا مع السعوديين فى تنفيذ مشروعه التحديثى. التناقض هنا مع سياسة «سعوَدَة» التشغيل والوظائف، وما نتج عنها منذ سنوات من ترحيل مئات الآلاف من العمال الأجانب، و«السعودة» قدِّمت على أنها فى قلب خطط السعودية للمستقبل كسبيل لحلّ مسألة التشغيل المتفاقمة فيها.

يلفت النظر أن الفساد كان موضوعا للمقابلات، ولكن الأمير لم يتطرق ولا سأله أحدٌ عن توزيع الدخل والثروة فى السعودية التى ينتشر فيها الفقر، رغم ثرائها. ردا على سؤال عن نمط إنفاقه هو اكتفى بقول إنه رجل ثرى، وليس مثل غاندى أو مانديلا، ولم يتابع محاوره بسؤال آخر.

مجمل القول إننا فى مصر لا بدّ أن نرَحِّبَ بالكف عن مساندة التطرف الدينى الذى نعانى من آثارها كثيرا. وألا نكتفى بذلك بل علينا أن نستفيد به، نحن الذين كنا سبّاقين فى التحديث، وأن نبتدع سياسات ثقافية واجتماعية تعيد نسج المجتمع المصرى، موَحّدا لا تمييز فيه. أما عن نظام الحكم، فمصر لا هى ملكية ولا هى قبلية، وبالتالى فمن المؤكد أن الملكية المطلقة أو القبلية لا يصلحان لها، ناهيك عن أنها لن تكون قابلة للاستدامة فى أى مكان أصلا مع تقدم القرن الحادى والعشرين.
هذا المقال كان عن الجوهر الداخلى لمشروع الدولة الجديدة فى السعودية. الأبعاد الإقليمية والدولية للمشروع ترتبط بهذا الجوهر ارتباطا وثيقا ولكن لها حديث آخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved