الموسيقار والحراك الجزائرى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 7 أبريل 2019 - 11:45 م بتوقيت القاهرة

«إن الجزائر لن تتذكر قادة الثورة إلا فى عيدى الثورة والاستقلال، أما محمد فوزى فسيعيش بلحنه مع كل إذاعة له فى كل يوم».
هكذا بادر زعيم الثورة الجزائرية «أحمد بن بيللا» المطربة «هدى سلطان» لدى استقبالها فى القصر الجمهورى تكريما لشقيقها الموسيقار «محمد فوزى».
كان ذلك تعبيرا عن عمق الأثر الذى أحدثه النشيد الوطنى الجزائرى فى إلهام إرادة المقاومة، رغم تنكيل الاحتلال الفرنسى وما ارتكبه من جرائم حرب تقتيلا جماعيا وتعذيبا بشعا.
فى الحراك الشعبى الجزائرى لم يغب ذلك النشيد الملهم عن التظاهرات والاحتجاجات، التى تطالب بدولة القانون بعد طول كبت وعسف وفساد وإعلان القطيعة مع الماضى الذى قوض روح الثورة الجزائرية إحدى أعظم ثورات العصر الحديث.
فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى تقدمت مصر لنصرة قضية الجزائر بكل ما تملك وتقدر عليه من دعم مالى وسياسى وعسكرى وإعلامى وفنى.
صنع «يوسف شاهين» فيلم «جميلة بوحيرد» مجسدًا بطولة المرأة الجزائرية الجديدة، وتبارى الشعراء وكبار الملحنين والمطربين فى التغنى بالجزائر المقاتلة التى تستحق الاستقلال والحرية، وصارت إذاعة «صوت العرب» أيقونة الثورة وصوتها واصل إلى كل بيوت الصفيح وفوق جبال «الأوراس».
فى مثل هذا المناخ لحن الموسيقار «محمد فوزى» نشيد «قسمًا بالنازلات الماحقات.. والدماء الذاكيات الطاهرات.. والبنود اللامعات الخافقات.. فى الجبال الشامخات الشاهقات.. نحن ثرنا فحياة أو ممات.. وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر.. فاشهدوا.. فاشهدوا.. فاشهدوا».
يروى «أحمد سعيد» مؤسس «صوت العرب» فى مذكرات خطية غير منشورة بشىء من التفصيل الطريقة التى جرى بها إنتاج ذلك العمل، الذى اتخذ نشيدًا وطنيًا للجزائر المستقلة.
خلال أربع ساعات يوم (١١) فبراير (١٩٥٧) سجل وأذيع.
فى ذلك اليوم أعدم الاحتلال الفرنسى (٣٠) جزائريًا وبدأ فى ملاحقة واعتقال مئات المناضلين، وكانت الثورة كلها أمام اختبارات قاسية بعد اختطاف خمسة من قادتها الكبار والصراعات التى تبدت بعده.
«تردد النشيد على كل لسان من الطفل إلى الكهل ومن المرأة إلى الرجل، أكثر من أى نشيد آخر أنتجته صوت العرب».
لم يخف «أحمد سعيد» أنه لم يكن مقتنعًا بقدرة «فوزى» على تلحين الأناشيد الثورية، عندما طلب وألح فى الطلب أن يساهم، ولو بقدر يسير، فى دعم الثورة الجزائرية مثل ملحنين آخرين، فهو «ملحن أغانٍ خفيفة مثل شحات الغرام، وأقصى ما يستطيعه تلحين أغنية وطنية وصفية».
كان «فوزى» قد تناهى إلى سمعه أثناء تواجده فى ركن من حديقة معهد الموسيقى أصوات كورال بإشراف جزائرى لزجل شعبى قبلى، وعرف أنها بروفات لنشيدين لحنهما «على إسماعيل» و«أحمد شفيق أبو عوف».
استفزه أن يستبعد من تلحين أناشيد مماثلة.
«ذهب إلى صوت العرب غاضبًا ومترجيًا ومستنكرًا فى وقت واحد بمشاعر متناقضة».
«هوه أنا مش موسيقار وملحن معتمد بالإذاعة».
«أنا لا أشتكى ولا أطلب مقابلًا، وكل ما أريده خدمة إخوتنا الثوار فى الجزائر».
«جربنى.. أرجوك إدينى فرصة».
رد عليه «أحمد سعيد»:
«أجربك يعنى إيه.. أنت واحد من أشهر ملحنى ومطربى مصر وأنا أرفض وضعك تحت التجربة».
«لاحظت دمعتين تتسللان هبوطًا على وجنتيه، وشعرت بخزى من نفسى».
خطف «فوزى» النشيد من يد «سعيد»، الذى كان مشفقًا عليه «من كلماته الناشفة، قرأه بصوت مسموع وعيناه تبرقان بفرحة عفوية شاردة».
ـ «أنا له».
ـ «يعنى إيه.. هتلحنه؟».
ـ «أنا لحنته!».
مرة أخرى تصور «سعيد» أن ما يراه أمامه حمقًا وجنونًا، فالكلمات التى كتبها الشاعر الجزائرى «مفدى زكريا» فى سجن «بربروس» داخل الزنزانة رقم (٦٩) يوم (٢٥) فبراير (١٩٥٥) أقل ما يمكن أن توصف به، رغم إيقاعها المتتابع، أن فيها بعض الغلظة فى النطق تحول دون ترديدها من الجماهير.
لم يكن مقتنعًا أن كلمات مثل «الزاكيات ـ يُصْفى بضم الياء وسكون الصاد ـ رنة البارود ـ نغمة الرشاش ـ وطويناه ـ أشلائنا ـ هاماتنا ـ واقرأوها«، يمكن أن تجد الصدى المطلوب من كل نشيد.
بعبقرية «فوزى» حدث العكس تمامًا.
بعد ساعة بالضبط عاد بلحنه جاهزًا لدخول الاستديو وقيادة الكورال.
«اللحن رغم عزفه على أوتار العود شدنى بعض الشىء.. غير أن رقة وعذوبة صوت فوزى أفسدت علىّ لحظتها ما بدأت أتخيله للحن بآلات الأناشيد من طبول وآلات نفخ».
«تقبلت حجز استديو الموسيقى والغناء فى مساء نفس اليوم كما طلب مُصرًا».
«اصطحبت معى للاستديو مستشار الإذاعة للموسيقى والغناء محمد حسن الشجاعى، ليكون بعمق خبرته سندًا لى فيما يمكن أن أتخده من قرار، قناعة منى أن عذوبة صوته ستفسد اللحن، وفى ذهنى أن أدفع مستشار الإذاعة أن يطالب فوزى بإعادة تسجيله بمجموعة أصوات من منشدى الإذاعة، غير أننى فوجئت بأن فوزى نفسه قاد الفرقة الموسيقية، وترك الغناء كاملًا للكورال».
«أدركت لحظتها أننى أمام ملحن يعى الكلمة والهدف منها، واستلهم من إيقاع النظم لحنًا جماهيريًا ثوريًا ألهم ملايين الجزائريين».
«سألت الخبير الموسيقى محمد حسن الشجاعى: هل لديك تفسير؟».
ـ «قال: النظم وتفعيله، رغم جفاف وغربة بعض كلماته، أوحى لفوزى بفكرة تبسطه لحنيًا، فاختار إيقاعًا سلسلًا لا يتطلب لأدائه أصواتًا متميزة مما جعل حفظه كنشيد سهلًا وسريعًا ومن جميع الناس مهما كانت أصواتهم وإمكانياتها.. وهذه مهمة أى موسيقى عندما يتصدى لتلحين نشيد جماهيرى، أو نغم شعبى».
كل اعتراض سجله «أحمد سعيد» له أساس حقيقى، لكنها عبقرية «فوزى» التى منحت النشيد خلوده.
بعد أن حقق النشيد نجاحًا فاق كل التوقعات «اتصلت بفوزى معربًا عن تقديرى، داعيًا إياه إلى تلحين أغنية وطنية تصلح كلماتها لأى شعب يعشق وطنه بكل ما فى العشق أحيانًا من آلام فراق وعذابات حرمان».
هكذا خرجت للنور أغنية «بلدى أحببتك يا بلدى»، التى أدت دورًا جوهريًا فى الخطاب الإعلامى إثر الهزيمة المروعة فى حرب (١٩٦٧).
فى أيام الهزيمة نهضت الجزائر للوقوف بجانب مصر.
ذهب الرئيس الجزائرى «هوارى بومدين» إلى موسكو، وتفاوض على شحنات أسلحة عاجلة، عرض دفع ثمنها فورًا لكن «ليونيد بربجينف« الرجل القوى فى الكرملين كان له تقدير آخر، أن هناك التزامات على الاتحاد السوفيتى تجاه مصر.
ثم قاتل لواء جزائرى مع الجيش المصرى فى حرب أكتوبر (١٩٧٣).
المعانى الكبرى لا تموت بالسكتة التاريخية مهما كانت التراجعات.
هذا درس مستعاد من الحراك الشعبى الجزائرى الذى يمتد جذره إلى روح ثورة المليون ونصف المليون شهيد.
القصة كلها تكاد تتلخص فى معنى واحد «وحدة المصير العربى» الذى لمس عمقه ذات يوم موسيقار مصرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved