مدارات الأزمة!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الثلاثاء 7 أبريل 2020 - 11:40 م بتوقيت القاهرة

تمر مصر الآن بأوضاع اقتصادية مأزومة، أتت ضمن التداعيات العالمية للفيروس المنتشر بطريقة عجيبة فى معظم بلدان العالم، والمعروف طبيا باسم «جائحة كورونا». فجميع الأنشطة الاقتصادية المصرية تجابهها تحديات انكماشية جسيمة وغير مسبوقة، وتحتاج لجراحات اقتصادية دقيقة؛ لا لتحاصر الآثار السلبية لهذه الأزمة فقط، ولا لتنزل بتكاليف الخروج منها للحدود الدنيا فحسب؛ بل لتحافظ على سلامة الجسد الاقتصادى المصرى بكامله.
وبقدر ما تتنوع وتتسع التحديات التى تخلقها الأزمات، تتركز وتضيق البدائل المتاحة للتصدى لها؛ وتصبح المفاضلة بين هذه البدائل المحدودة، واختيار أنسب التوقيتات الزمنية لوضعها موضع التنفيذ، هما أكبر تحديين فى سلسلة تحديات الأزمة. ولئن كانت الحلول الاقتصادية دائما ما تنبع من الرؤى التى يتبناها صائغيها وتعكس تحيزاتهم الاجتماعية؛ وإذا خُيرنا بين بديلين أحدهما عالى التكلفة الاجتماعية وعظيم الأثر الاقتصادى، والآخر منخفض التكلفة الاجتماعية ومحدود الأثر الاقتصادى، فنعرف جيدا إلى أى البديلين نميل!

***
عندما تمسك أزمة ما بخناق أى اقتصاد، ينبرى الفكر الاقتصادى لشرح هذه الحالة عبر إلقاء اللوم على أحوال جانبى العرض والطلب؛ أحدهما أو كلاهما. فالغياب الفجائى للتوازن عن النشاط الاقتصادى، والتباعد الشديد الذى يحصل بين العرض والطب، يعنى الاختلال المفاجئ وغير المتوقع بين قدرات الإنتاج واحتياجات الاستهلاك، وبين إمكانات الادخار وقرارات الاستثمار، وبين طاقات التصدير والميل للواردات، وبين نفقات الحكومة وبين إيراداتها. وعندما تحدث هذه الاختلالات الجسيمة، تعجز السياسات الاقتصادية التقليدية عن المواجهة، وتتولد الحاجة الملحة لاتخاذ إجراءات علاجية مبتكرة، لمحاولة العودة لوضعية التوازن.
وللأزمات الاقتصادية مدارات رئيسية تتحرك وتتفاعل داخلها. فهناك المدار الداخلى للأزمة وهناك المدار الخارجى لها؛ وهناك كذلك المدار الاقتصادى والمدار الاجتماعى الذى تدور فيه. وتتسع مدارات كل أزمة وتضيق حسب مسببات حدوثها، وحسب درجة التطور الاقتصادى والاجتماعى فى موطن حدوثها، وحسب الإجراءات المتبعة للتصدى لها. غير أن الخبرات الدولية المتراكمة فى موضوع الأزمات توضح أن أصعب هذه الأزمات وأوسعها انتشارا وأعمقها تأثيرا، تلك التى تحدث فى أعقاب تفشى الأمراض والأوبئة عالميا، وانتقال عدواها من دولة لأخرى بنفس سرعة انتقال الفيروسات.
وبنظرة شاملة للواقع الراهن للاقتصاد المصرى، وبدون إغفال السياق العالمى لأزمة «جائحة كورونا»، فمن الواضح تماما الآن أننا أمام أوضاع استثنائية لاقتصاد يدور فى مدارات ثلاثة للأزمة. فالأول هو المدار الداخلى لها. فالاقتصاد المصرى قد أصيبت متغيراته الداخلية بشدة، ولدرجة أن الاستهلاك الخاص للأفراد وللشركات قد أمعن متراجعا نتيجة للعوامل النفسية للمستهلكين، واستجابة للترتيبات التى فرضتها الحكومة لمحاصرة انتشار الفيروس (مثل حظر التجول والتوقف مؤقتا عن إنتاج الخدمات الحكومية). فباستثناء السلع ذات النفع الطبى والغذائى، بدأ التراخى الحاد فى الطلب على الإنتاج الصناعى والخدمى، وبالأخص الطلب على الخدمات السياحية. وفى المقابل، تأثر الطلب الاستهلاكى الحكومى سلبيا، لكنه لم يصل بعد لوضع «الركود الحاد». وفى ذات المدار الداخلى للأزمة، تعانى أنشطة الاستثمار والتشغيل مما تعانى منها أنشطة الاستهلاك؛ وتتسع الفجوة أيضا بين نفقات الحكومة وبين إيراداتها من الضرائب والرسوم والخدمات العامة.
على أن المدار الثانى للأزمة الحالية للاقتصاد المصرى يتمثل فى مدارها الخارجى. فتأثر القدرات التصديرية المصرية أمر حتمى فى ظل المشكلات التى تواجه عمليات الإنتاج بغرض التصدير. ولو فرضنا جدلا أن عجلات المصانع قادرة على الدوران رغم صعوبة هذه الظروف، فإن تراخى الطلب العالمى سيضعف من نفاذ هذه الصادرات للأسواق العالمية. فإذا كانت صادرات النفط ــ كسلعة استراتيجية عالمية ــ تعانى من تراخى حاد، وتنخفض أسعارها بطريقة دراماتيكية لم تحدث منذ العام 1986 تقريبا؛ فما بالنا بأحوال الصادرات المصرية من السلع والخدمات غير الاستراتيجية فى ظل هذه الأزمة؟! وما صح عن مشكلات التصدير فى غمار هذه الأزمة يصح كذلك عن أحوال الواردات المصرية. فهناك مخاطر جمة تنتظر أنشطة الاستيراد للسلع والخدمات، ليس أقلها انقطاع سلاسل الإمداد والتوريد العالمية؛ ومن المتوقع كذلك ارتفاع أسعار الواردات الطبية وغير الطبية؛ اللهم إلا الواردات من النفط.
ولما كانت مسببات هذه الأزمة غير اقتصادية بالأساس، فإن نتائجها ومداراتها لن تقتصر على الجوانب الاقتصادية التى بيناها سابقا. إذ هناك جوانب وأبعاد اجتماعية تشكل المدار الثالث لها. فجدير بالتأمل أن اقتصاد يستحوذ قطاعه الخدمى على حصة كبيرة وحاكمة من ناتجه الإجمالى، هو نفسه الاقتصاد الذى يحتل فيه القطاع غير الرسمى منزلة مهمة ومؤثرة فى بنائه الاقتصادى والاجتماعى. وإذا كان هذا هو الوضع الحالى للاقتصاد المصرى، فإن المدار الاجتماعى للأزمة الحالية يتشكل بقوة الدفع الذاتى لها. فالعمالة الهامشية وغير المنتظمة مهددة بقوة فى مصدر دخلها الأساسى، ومظلات الضمان الاجتماعى والطبى غير قادرة على تعويض القصور الذى أحدثته الأزمة باستمرار، والبدائل الظاهرة فى الأفق مازالت أقل من المأمول. ولذلك تحديدا، ففى طبقات المجتمع المصرى الدنيا يكمن المدار الثالث والأهم للأزمة الراهنة.

***
بينما تتابع الإجراءات الطبية الوقائية لمحاصرة انتشار فيروس كورونا، كانت الأنشطة الاقتصادية المصرية فى حاجة لنوع آخر من الإجراءات المالية التوسعية. وحسنا فعلت الحكومة بفرض العديد من الترتيبات النقدية والمالية وغير المالية لمساندة النشاط الاقتصادى المأزوم. وتمثلت أبرز هذه الترتيبات فى دعم التداول فى البورصة، وتخفيض سعر الفائدة مع الاستمرار فى إصدار أوعية ادخارية بأسعار فائدة تفضيلية لسحب جزء من السيولة ودعم الادخار، مع تخفيض أسعار الطاقة للمصانع، وتأجيل تحصيل العديد من المستحقات الحكومية على القطاع الخاص، فضلا على منح إجازات مدفوعة الأجر للعاملين بالحكومة والقطاع الخاص، وزيادة دخول بعض الفئات، ومحاولة تعويض العمالة غير المنظمة.
وبجمع الطيف الواسع للترتيبات التى تلت تفشى «جائحة كورونا»، سيظهر أمامنا «برنامج الإنقاذ» الحكومى الذى راهنت عليه فى محاصرة المدارات الثلاثة للأزمة. والحق، فإنه باستثناء إصدار الأوعية الادخارية التفضيلية، نعتقد فى جدوى ونجاعة حزمة الإجراءات المالية والنقدية الحكومية المساندة للقطاعين الخاص والعائلى ليتجاوزا مصاعبهما المالية مؤقتا. لكن حرصنا على استدامة المنافع الاقتصادية لبرنامج الإنقاذ طوال فترة الأزمة، وحرصنا على أن تذهب مساندته لمستحقيها دون غيرهم، وأن تفيد هذه المساندة فى الخروج الآمن وغير المكلف من الأزمة؛ كل ذلك يجعلنا نقترح على متخذ القرار عدد من المعايير الضرورية، والتى يجب البناء عليها أثناء تحديد نطاق عملية الإنقاذ، وعند التقييم الدورى والمستمر لكل عنصر من هذه الترتيبات الحكومية. والنقاط الخمسة التالية تفصل تلك المعايير:
1ــ معيار الأثر المباشر على الأنشطة الإنتاجية الاستراتيجية. فلكى يمكننا المحافظة على سلامة بنيان الاقتصاد المصرى، ولكى ينتظم دوران عجلات الإنتاج خلال فترة الأزمة، فنعتقد أن «برنامج الإنقاذ» عليه أن يختار القطاعات والأنشطة الإنتاجية القادرة على سد الاحتياجات الإستراتيجية الغذائية والطبية والتصديرية، والتى خلقت المدارات الحرجة للأزمة. فإن ضاقت هذه الأنشطة فائقة الأهمية من الأزمة، يكون عند برنامج الإنقاذ المتسع. وترتيبا على ذلك، لا نتصور أن نستهلك الطاقة المحدودة لهذا البرنامج فى مساندة أنشطة إنتاجية واستيرادية غير استراتيجية.
2ــ ولمراعاة كفاءة برنامج الإنقاذ فى اختيار القطاعات والأنشطة المدعومة، هناك ضرورة بالغة للتفرقة الدقيقة بين «التعثر الطارئ» و«التعثر المستمر» فى الأداء الاقتصادى؛ أى التفرقة بين تجليات الأزمة الطارئة وتجليات الأزمة المستمرة. فنطاق ترتيبات الإنقاذ يجب أن يقتصر على القطاعات والأنشطة المتضررة من الأزمة الطارئة لجائحة كورونا فقط، ولا يبدد ويبعثر إمكاناته فى مساندة قطاعات وأنشطة مأزومة مسبقا. وإذا اضطرت الظروف لتقديم بعض الدعم لهذا النوع المأزوم باستمرار، فلا تستفيد سوى بمقدار تأثرها بالأزمة الطارئة فحسب.
3ــ ولضمان كفاءة الإنفاق العام على برنامج الإنقاذ، فإن العدالة المكانية والزمانية فى عمليات الدعم الطارئ للقطاع الخاص وللأفراد تقتضى أن توزع برامج الدعم على الأقاليم الجغرافية بحسب درجة الاحتياج للدعم؛ كما تقتضى أن يُحفظ الجميل للاقتصاد المصرى، وأن يرد هذا الجميل بعد انقشاع الأزمة قريبا بإذن الله. فمن العدالة الزمانية أن يلتزم القطاع الخاص والأفراد بتعويض الاقتصاد المصرى لاحقا عن الفاقد الإنتاجى والمالى والإدارى الحادث خلال فترة الأزمة. وابتكار حلول تعويضية عادلة يجب أن يكون محل نقاش مجتمعى مستفيض.
4ــ ويجب أن تُبنى ترتيبات برنامج الإنقاذ على قواعد ذكية لتنظيم الاقتصاد غير المنظم، وأن تستغل حاجة الأنشطة غير المنظمة للدعم وحاجة العمالة غير المنظمة للدخل الاستغلال السليم، عبر شمولها بالمظلة الرسمية والنظامية. ولذلك، فنرى أن من حسنات هذه الأزمة أن جعلت الأنشطة الإنتاجية غير النظامية والعمالة الهامشية فى حاجة ماسة لأن تصبح نظامية لتستفيد من ترتيبات الإنقاذ، شريطة ألا يردها هذا البرنامج صفر اليدين. ولئن تحقق هذا الشرط، ستكون المكاسب المالية وغير المالية التى سيجنيها الاقتصاد المصرى من هذا التنظيم جمة، ويمكنها أن تعوضــ فى وقت لاحقــجزء مهم من التكاليف المالية الضخمة لبرنامج الإنقاذ.
5ــ وبالإضافة لمعايير الكفاءة الاقتصادية السابقة، فنرى أن الأثر الاجتماعى لترتيبات برنامج الإنقاذ يحتل مكانة هامة ضمن معايير تحديد نطاق هذا البرنامج، وضمن عمليات التقييم والمراجعة الدورية له. ومن حسن الحظ أن الاقتصاد المصرى تتناغم فيه الأبعاد الاجتماعية مع الأبعاد الاقتصادية. فقناعتنا الراسخة أن كل سياسة عالية الأثر الاجتماعى ستكون بنفس المنزلة العالية فى الأثر الاقتصادي؛ والعكس صحيح أيضا. وبالاعتماد على المنطق الاجتماعى لهذا المعيار، لن تساند الشركات غير المسئولة اجتماعيا وبيئيا أمام الاقتصاد المصرى وغير المسئولة أخلاقيا أمام عمالتها مع اشتداد عود الأزمة. فمن لا يُسانِد لا يُسانَد!

***
نحن نؤمن أنه لكيلا تذهب كل الجهود والترتيبات الحكومية سدى، ولكى تضيق وتنقضى مدارات الأزمة الراهنة، ولكى يخرج الاقتصاد المصرى بأقل التكاليف الاقتصادية والاجتماعية من ويلاتها العاصفة، فلا مفر أمام راسمى برنامج الإنقاذ غير توجيه جميع طاقاته وإمكاناته لمستحقيها، ولا بديل عن تحمل تكلفته الاجتماعية برضا واقتناع اقتصادى واضح. ونعتقد أن المعايير التى اقترحناها آنفا يمكنها أن تساهم بقدر ما فى تحقيق هذا الهدف العزيز!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved