مئوية وزارة الخارجية.. حقبة الازدهار وحقبة التهميش

سيد قاسم المصري
سيد قاسم المصري

آخر تحديث: الجمعة 8 أبريل 2022 - 5:01 م بتوقيت القاهرة

لا شك أن أزهى عصور وزارة الخارجية المصرية كانت الأعوام الثلاثين الأولى منذ 1922 إلى 1952 خلال الحقبة الديمقراطية، حيث كانت وزارة الخارجية هى الفاعل الأول فى صياغة السياسة الخارجية لمصر، وبالرغم من ظروف الاحتلال البريطانى فقد كنا نلمس وجود سياسة خارجية مستقلة لمصر تستجيب لنبض الشارع المصرى وتطلعاته. وبالرغم من محاولة ثوار يوليو طمس هذه الحقبة ودمغها بالعمالة للغرب وتبعيتها له، إلا أن الوقائع التاريخية تدحض هذا الطرح، ولنأخذ مثالا لذلك فى قيام مصر بالاعتراف بحكومة الثوار فى إندونيسيا بمجرد الإعلان عن قيامها وكانت مصر هى أول دولة بالعالم تتخذ هذا القرار استجابة لرغبة شعبية فى مصر عبرت عنها المظاهرات الحاشدة التى كانت تجوب شوارع القاهرة وبعض المدن الكبرى تأييدا لكفاح إندونيسيا ضد الاستعمار، وقد أثار الاعتراف المصرى المبكر بحكومة الثوار، التى كانت تقاتل فى الأدغال، حفيظة بريطانيا وهولندا اللتين قامتا بإعادة احتلال الجزر الإندونيسية بعد انسحاب الجيش اليابانى منها. ولم تكتف مصر بالاعتراف بل سعت من خلال الجامعة العربية إلى صدور قرار جماعى بالاعتراف وتأييد الحكومة الجديدة، كما قامت بإيفاد مبعوث حاملا وثيقة الاعتراف وبعض المعونات إلى إندونيسيا وقامت بدعوة وفد من حكومة سوكارنو لمصر حيث وقعت معه أول معاهدة صداقة وهى المعاهدة المعلقة فى مدخل وزارة الخارجية الإندونيسية حتى اليوم.

• • •

أتفق مع الصديق الدكتور مصطفى كامل السيد فى معظم ما جاء بمقال «خواطر المئوية الأولى لوزارة الخارجية» (الشروق 28/ 3/ 2022)، ولكنى أختلف معه فى «أن العصر الذهبى لوزارة الخارجية هى العقود الخمسة الأولى فى حياتها فى ظل العصر الملكى وطوال فترة الرئيس جمال عبدالناصر»، فقد كان إهمال وزارة الخارجية فى الحقبة الناصرية يفوق إهمالها فى عهدى السادات ومبارك، فمثلا لم يكن لوزارة الخارجية أى دور فى اتخاذ القرار المصيرى بسحب قوات الطوارئ الدولية من سيناء فى مايو 1967 وإعادة إغلاق خليج العقبة، ولندع الدبلوماسى القدير إسماعيل فهمى يوضح لنا ذلك حيث يقول من كتابه «التفاوض من أجل السلام» أن «فقدان التخطيط والتحليل لنتائج الخيارات المتاحة وما قد ينجم عنها هو العلة الأساسية للسياسة الخارجية المصرية التى ساهمت فى هزيمة عام 1967». فقد كانت وزارة الخارجية هى آخر من يستشار وآخر من يعلم بمجريات الأمور، فقد اتخذ جمال عبدالناصر قرار سحب قوات الطوارئ الدولية دون استشارة الخارجية، وكلف وزير الحربية بإبلاغ القرار إلى قائد هذه القوات الذى رفض تسلم القرار وقال إنه يتلقى تعليماته من أمين عام الأمم المتحدة فقط، وعندها فقط تم إبلاغ وزارة الخارجية لتقوم بإبلاغ الأمم المتحدة، وهنا حاول اسماعيل فهمى الذى كان يترأس غرفة العمليات بالوزارة فى ذلك الوقت أن يثنى الرئيس عن هذه الخطوة ويوضح الأخطار التى قد تنجم عنها ولكن دون جدوى.

• • •

لقد كان فتح خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية وتمركز القوات الدولية فى سيناء وفى جزيرتى تيران وصنافير عند مدخل خليج العقبة لضمان حرية الملاحة ومراقبة وقف إطلاق النار هو الثمن الذى قبلناه مقابل انسحاب إسرائيل من كامل شبه جزيرة سيناء.

لذلك اعتبرت إسرائيل أن طرد القوات الدولية وإعادة إغلاق مضيق تيران هو بمثابة إعلان حرب ونكوص عن التعهدات وعدوان سافر عليها وفقا لتعريف الأمم المتحدة للعدوان الذى يشمل الحصار البحرى وإغلاق المضايق.. وأيدتها مجموعة كبيرة من الدول وحاول أوثانت أمين عام الأمم المتحدة وعدة دول إعطاء فرصة لالتقاط الأنفاس، وصدر قرار بهذا المعنى من مجلس الأمن يطالب الطرفين بإعطاء فرصة لمدة أسبوعين كفترة التقاط أنفاس يتوقف كلاهما عن اتخاذ أى خطوات تصعيدية لإتاحة الفرصة لمحاولة التوصل لحل سلمى، وطار أوثانت أمين عام الأمم المتحدة بنفسه إلى القاهرة حاملا القرار إلا أنه استقبل فى مطار القاهرة بمظاهرات تنشد نشيد «هنحارب.. هنحارب»، وصدرت معظم الصحف العالمية وفى صدر صفحتها الأولى مانشيت يقول «المصريون يريدون الحرب».. كان هذا هو كل ما تريده إسرائيل لتنفيذ خططتها التى حلمت بها من سنين، وها هى الفرصة الذهبية الآن والساحة الدولية مهيأة كما لم تكن من قبل والمعركة قد وضحت أطرافها وتحدد «الطيب والشرير».. الطيب هو إسرائيل بالطبع التى ضخمت فى أهمية خليج العقبة كشريان حياة لها بينما هو لا يمثل أى أهمية لتجارة إسرائيل التى تتم معظمها مع الغرب من خلال موانئ البحر المتوسط.. وبعد صدور قرار المجلس المشار إليه بثلاثة أسابيع قامت مصر خلالها بخطوات تصعيدية مثل الإعلان عن تلغيم مضيق تيران، فقامت إسرائيل يوم 5 يونيو 1967 بغزو شامل للأراضى المصرية والفلسطينية (الأردنية) والسورية واحتلت شبه جزيرة سيناء بالكامل بما فيها مضيق تيران واحتلت القدس وكامل أراضى الضفة الغربية بالإضافة إلى الجولان السورية.. وصفق لها العالم..

ولم نتمكن من إضافة فقرة تقليدية إلى قرار وقف إطلاق النار وهى الفقرة الخاصة بالمطالبة بالانسحاب إلى خطوط ما قبل بدء القتال..

ويعتبر بعض المؤرخين أن شهادة ميلاد إسرائيل الحقيقة صدرت يوم 5 يونيو 1967.

• • •

وفى عهد عبدالناصر، لم يكن إهمال وزارة الخارجية يقتصر على المسائل المصيرية فقط أو على استبعادها المشاركة فى السياسات الخارجية للدولة، بل امتد ليشمل العلاقات العادية مع دول الجوار ومع الدوائر الرئيسية لسياسة مصر الخارجية، حيث استقل الوزير محمد فائق بالشئون الأفريقية وتولى السيد/ حسن صبرى الخولى مستشار رئيس الجمهورية الشئون العربية وتولت إدارة فلسطين بوزارة الحربية الكثير من جوانب القضية الفلسطينية..

• • •

استمر الحال على هذا المنوال طوال فترة حكم السادات وحكم مبارك باستثناء الأوقات التى كان يتولى وزارة الخارجية فيها وزير قوى أمكنه اكتساب ثقة الرئيس وفى نفس الوقت علم أن هناك مساحة يستطيع أن يتحرك فيها دون أن يستثير مخاوف الرئيس.. ولعل أبرز هذه الفترات هى فترة تولى اسماعيل فهمى الوزارة فى عهد السادات وفترة عمرو موسى فى عهد مبارك.. خلال هاتين الفترتين كان لوزير الخارجية دور فى رسم وإدارة السياسة الخارجية، وأقول لوزير الخارجية بصفته وليس لوزارة الخارجية كمؤسسة.. إلا أن هذا الدور ــ بطبيعة كونه شخصيا ــ توقف عندما اختلفت الرؤى بين الوزير والرئيس ــ كما حدث عندما قرر السادات زيارة القدس التى لم يستشر وزير خارجيته فيها لعلمه أنه سيعارضها، وتوقف أيضا فى عهد مبارك عندما بدأ عمرو موسى يكتسب شعبية بالداخل ولدى فئات لا تكترث عادة بالشئون الخارجية.

• • •

كلنا يعلم كيف تم الإعداد لزيارة السادات للقدس من خلال اتصالات سرية مع إسرائيل تم إخفاؤها عن وزارة الخارجية بالكامل، بل ترك وزير الخارجية إسماعيل فهمى فى الاستمرار فى تنسيق الموقف العربى استعدادا لمؤتمر جينيف للسلام الذى كانت تجرى الترتيبات لانعقاده، وهو الأمر الذى دعا الوزير إلى تقديم استقالته، ثم تلاه الوزير محمد رياض الذى لم يمكث بالوزارة إلا 24 ساعة.. الأمر الذى أغضب السادات وجعله يعهد بوزارة الخارجية إلى أحد العسكريين وهو الفريق أول كمال حسن على مدير المخابرات العامة فى ذلك الوقت وكلفه برئاسة وفد التفاوض مع إسرائيل.. والحق أنه، أى كمال حسن على ــ اعتمد على الدبلوماسيين المصريين فى كل مسارات التفاوض ــ باستثناء المسار العسكرى بالطبع ــ وكان يشيد بأدائهم فى كل فرصة.. إلا أن المعوق الأكبر فى مجرى التفاوض بالنسبة للوفد المصرى كان هو الرئيس السادات نفسه، حتى فى المسار العسكرى وموضع تمركز القوات، فقد كان الوفد الإسرائيلى يلجأ إليه مباشرة عندما تتعقد المفاوضات فى نقطة معينة ويحصل على موافقته ثم يدخل قاعة التفاوض ويعلن أنه حصل على موافقة الرئيس..

وقد حكى لى اللواء طه المجدوب الذى كان يترأس المجموعة العسكرية فى التفاوض أنهم عندما جلسوا لرسم خطوط المناطق الثلاثة فى صحراء سيناء، أ وب وج، وكان الاتفاق يقضى بأن يكون الخط أ الذى تتمركز فيه القوات المصرية على بعد 50 كيلو مترا شرق قناة السويس.. عندما جلسوا مع الإسرائيليين لرسم الخط على الخرائط، طرح الوفد المصرى أن الخط لا يمكن أن يكون مستقيما وعلى بعد 50 كيلو مترا بل يتوقف المسار على طبيعة الأرض والتباب والهضاب وما إلى ذلك. وكان الوفد الإسرائيلى يعلم أن ذلك هو الصحيح من الناحية الفنية إلا أنهم تمسكوا به وقالوا إنهم حصلوا على موافقة الرئيس السادات وإذا كان الوفد المصرى يريد التغيير فعليه أن يعطى إسرائيل مقابل ذلك.

• • •

أما أخطر الفترات التى تعرض فيها دور الخارجية لما هو أكثر من التهميش فهو خلال فترة حكم الإخوان المسلمين، فلم يقتصر الأمر على تدخل رئاسة الجمهورية وأجهزة الامن فى الشئون الخارجية، بل امتد ليشمل مكاتب الإرشاد وفروع الإخوان المنتشرة فى أنحاء العالم والتى كانت تمد المكتب بتقاريرها وتحليلاتها التى يستند إليها مكتب الإرشاد فى رسم السياسة الخارجية لمصر الأمر الذى أدى إلى انزواء وزارة الخارجية تمام عن المشهد..

• • •

ولا يعنى ذلك أن الدبلوماسيين المصريين ركنوا إلى الراحة والتسليم، بل أن الأمر أصبح أكثر صعوبة بالنسبة لهم والعمل أصبح أكثر مشقة وهم يحاولون إصلاح ما أفسدته القيادات المختلفة وتحجيم الأضرار Damage Control.. فتحية لهم فى عيدهم المئوى.. تحية للأجيال المعاصرة ولأسلافهم العظام.. لقد حظيت الدبلوماسية المصرية ولازالت تحظى وبالرغم من كل شىء بتقدير عالمى وتعد من الناحية المهنية فى مصاف دبلوماسيات الدول الكبرى.. لقد كان سفير اليابان بالقاهرة فى التسعينيات يطلق على مبنى الوزارة بماسبيرو «مستودع الموارد البشرية»..

لقد صالت الدبلوماسية المصرية وجالت فى المجالات المتاحة فى الأمم المتحدة وسائر المحافل الدولية. وتولت قيادة العالم الثالث فى هذه المجالات.. ولا زالت أروقة الأمم المتحدة تذكر أسماء محمود فوزى واسماعيل فهمى وأحمد حسن الزيات وعبدالله العريان ونبيل العربي ومحمد البرادعى وعمرو موسى ونبيل فهمى وغيرهم كثيرون من مختلف الأعمار، فضلا عن الأجيال التى سبقتهم وعلى رأسهم عبدالحميد باشا بدوى الذى شارك فى صياغة ميثاق الأمم المتحدة، فرحم الله من رحلوا منهم عن عالمنا وأطال بقاء «من ينتظر وما بدلوا تبديلا».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved