كان صرحًا فهوى..

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 7 مايو 2011 - 8:45 ص بتوقيت القاهرة

 صور تستدعى أخرى، فمنظر الجموع وقد تسلقت تمثالا عملاقا لزعيم عربى محاولة أن تأتى به أرضا، أو تكتلت حول قوس نصر عملاق فى لحظة تحدى، أو شطبت على صورة حاكم ومزقتها فى ميدان عام، كلها صور ــ وإن كان تلازمها وتدافعها على هذا النحو السريع لم يكن متوقعا ــ تستدعى مشهدا ليس ببعيد ظل محفورا فى الذاكرة العربية وهو سقوط تمثال صدام حسين مع سقوط بغداد. وجاء قرار السلطات المدنية الأمريكية فى العراق، مع بداية مايو 2003 أى بعد أسبوعين فقط من انتهاء الحرب، بمنع أشكال الفنون التى قد تمثل صدام أو تمجده ومنع تداول العملة التى حملت صورته، تأكيدا على خطورة فنون النُصب التذكارية والجداريات والتماثيل التى تستخدم عادة للتذكير بهيبة الحاكم ووجوده الطاغى، بل وصبغ شخصيته بملامح اسطورية ترفعه لمرتبة فوق البشر. فالمزاج العربى أو الشرقى بصفة عامة يميل إلى «تأليه» الحاكم وصناعة البطل وتوهم وجوده، ليعيش فى ظله ويخضع له خضوعا فيه قدر من التقديس، فيما ترجم عن الروسية بـ«عبادة الشخصية» (إذ ورد هذا التوصيف لأول مرة فى خطاب لرجل الدولة السوفييتى نيكيتا خوروتشوف عام 1956 خلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى، منتقدا جوزيف ستالين وطرقه التعبوية، ثم استخدم فيما بعد لنعت نيكولاى تشاوشيسكو فى رومانيا وماوتسى تونج فى الصين وهتلر فى ألمانيا وغيرهم).

توحى لنا الصور أحيانا أن الشعوب العربية قد تمردت على «ألوهية الحاكم» وودعتها للأبد، وأننا إذا استرسلنا فى الخيال قد نجد الحكام المخلوعين جميعا وقد تجمعوا فى بيت جبلى فسيح، وهو ملجأ للعجزة أو مسكن للراحة أقامه ديكتاتور آخر لم يزل فى الحكم، يلعب معهم الدومينو فى فترة بعد الظهيرة ليشعر بتفوقه عليهم ويزهو بأنه ليس فى مثل وضعهم، على نحو ما تخيل الكاتب الكولومبى جابرييل جارسيا ماركيز فى روايته الشهيرة «خريف البطريرك». ورغم أن الرواية يرجع تاريخها إلى السبعينيات فإن وصف ماركيز الساخر للطغاة المخلوعين غير بعيد عن ما نحن فيه، إذ تصورهم وقد هرموا، يرتدون بعض ملابسهم الرسمية فوق البيجاما أحيانا، ويمسكون بحقيبة النقود التى نهبوها من الأموال العامة بيد وفى اليد الأخرى حقيبة أصغر تحمل النياشين التى حصدوها وبعض قصاصات الصحف وألبوما للصور، يساورهم أمل فى العودة ربما وتسيطر عليهم فكرة أن وجودهم ضرورى للأوطان. وإذا أردنا الاندماج أكثر فى لعبة ماركيز فقد نتخيل مثلا أن صدام حسين موجود فى مثل هذا الجمع الديكتاتورى ويخرج من حقيبته بعض الساعات ــ الهدايا التى تحمل صوره أو أن زين العابدين بن على قد اختار النوم فى الغرفة رقم 7 لتفاؤله به منذ توليه الحكم فى السابع من نوفمبر عام 1987، وقد اكتست الحجرة بالبنفسجى الفاتح، لونه المفضل الذى فرضه على المحيطين به، بل وعلى شعار قناة التليفزيون الرسمية! لكن سرعان ما تتوقف هذه الخيالات ونفيق على صور وأصوات أخرى تدافع عن «رئيس لم يدخلنا حربا من 30 سنة ولم يسمح بوجود قواعد عسكرية» أو أصوات تستنكر الحديث مع القادة والمسئولين بطريقة ندية أو أصوات تنتقد تلعثما أو عيبا فى النطق لدى مرشح للرئاسة مفضلين الكاريزما والخطابة، لنتذكر أن التماثيل لم توجد فقط فى الميادين بل تسربت إلى الخيال بحكم العادة، وترسخت فى الأذهان صورة القائد الذى حمل سيف سعد بن أبى وقاص فى القادسية أو تسبب فى نجاح الضربة الجوية أو خرج من عباءة عبدالناصر الثورية. فقد تسلل «بوليس الأفكار» إلى العقول، كما سماه جورج أورويل فى رائعته عن النظم القمعية «1984»، وتدريجيا تحولت الأكاذيب إلى حقائق لتحفظ فى الأرشيف الوطنى. وعلى ضوء الرغبة العارمة فى خلق الأساطير وتصديقها لا تتوقف ماكينة صنع أنصاف الآلهة عن العمل، فنسمع عن أحد العراقيين مثلا كان يبيع فى دكانه صور بورتريه لصدام حسين رسمها بدمه، كما تحمل المدن المختلفة آثار صروح وأضرحة وتماثيل تروى الكثير حول من شيدها من فنانين وطغاة على حد سواء، قد نصُب عليها غضبنا فى لحظات إلا أنها تستحضر تاريخ المكان والفن والذاكرة الجمعية، وتطالعنا دوما فى الصور القديمة والحديثة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved