زوبعة حول الأزهر

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 7 مايو 2017 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

بعض الصور تزيح ما علق على الذاكرة العامة من غبار كثيف، لكنها لا تخترع تاريخا ولا تصطنع قيمة.
وقد كان مثيرا للالتفات أن يعيد المصريون اكتشاف وزن الأزهر الاستثنائى من صورة واحدة تناقلتها الفضائيات ووكالات الأنباء والصحف الدولية، حين احتضن بابا الفاتيكان «فرنسيس» شيخ الأزهر «أحمد الطيب» بمودة وشده إلى صدره مقبلا.
كانت الصورة خروجا دراماتيكيا عن العلاقات البروتوكولية المعهودة بين الكنيسة الكاثوليكية والأزهر الشريف.
أمل ما لاح أمام العالم لإمكانية التكاتف الإنسانى فى وجه الإرهاب الضارى بعيدا عن التنابذ بالأديان، غير أن نفس الصورة كان لها وقع آخر فى مصر.
تجلت قيمة الأزهر فى عيون المصريين، كما لو أنهم قد اكتشفوا للتو أنه أهم مؤسسة إسلامية فى العالم لأكثر من ألف عام وإحدى منارات القوة الناعمة التى تعلم وتلهم وسطية الإسلام وسماحته.
بعد تلك الصورة الموحية بحقائقها ورسائلها استقبل الشيخ «الطيب» بحفاوة بالغة فى كل حفل عام يدعا إليه كنوع من الاعتذار شبه الجماعى، أو شىء من رد الاعتبار عما تعرض له من حملات أخطرها مشروع قانون جديد ينقض عمليا على أى استقلال للأزهر.
أرجو ـ أولا ـ أن يكون واضحا أن رد الاعتبار الحقيقى يتجاوز إجهاض مشروع القانون المثير للتساؤلات حول من يقف وراءه إلى البيئة العامة فى البلد كله.
نقد أى مؤسسة مشروع وطلب الإصلاح ضرورى، شرط ألا تختلط الأوراق فيضرب الأزهر فى صميم دوره ويصفى استقلاله باسم الدولة وتمكينها من الإمساك بكل الخيوط، وهذه جريمة تاريخية متكاملة الأركان تؤمم كل المؤسسات فى صوت واحد وتحجب عن مصر التنوع الطبيعى والتوازن الضرورى لأى مجتمع حديث.
الأزهر بلا استقلال مبنى بلا روح.
وأرجو ـ ثانيا ـ ألا ننسى أن دوره كان استثنائيا فى التاريخ الحديث، كما فى القديم تماما، فى نقل البلد من عصور إلى أخرى، واجه الحملة الفرنسية وقاد المقاومة قبل أن يفتح الطريق لبناء دولة «محمد على» الحديثة، التى أعلت من شأن البعثات التعليمية إلى أوروبا كمدخل للنهضة والعمران، وأدخلت أبناء الفلاحين الجيش كمدخل للنفوذ والقوة.
كما كان دوره رئيسيا فى تظاهرات ثورة (١٩١٩) التى ألهمت شعارى «عاش الهلال مع الصليب» و«الدين لله والوطن للجميع»، ومن فوق منبره ولدت زعامة «جمال عبدالناصر» الذى أعلن إرادة المقاومة للعدوان الثلاثى عام (١٩٥٦) .
على الرغم من خفوت دوره من مرحلة لأخرى إلا أن إرثه ألهم عام (١٩٨٢) العودة إلى رحابه رمزا لرفض احتلال إسرائيل للعاصمة اللبنانية بيروت.
فى تلك الأيام كان هناك مؤتمر للقوى الوطنية يبحث عن مكان ما للتظاهر ضد ذلك العدوان الإسرائيلى، ارتفع صوت شاب من خلف الصفوف يقول: «الأزهر».
بقوة الرمز سرى التصفيق فى المكان مدويا، الأزهر ولا مكان آخر غيره تجسيدا لإرادة المقاومة المصرية فى مواجهة بطش القوة الإسرائيلية.
وبقوة الرمز يستحيل تطويعه بالقوة لما تريده السلطات أيا كان اسمها أو عنوانها.
هذا النوع من المعارك خاسر سلفا.
وأرجو ـ ثالثا ـ ألا ننسى أن استقلال الأزهر من مقومات أن يلعب دوره مؤثرا وملهما فى العالم العربى والإسلامى والقارة الإفريقية وبقية العالم.
الأزهر بدعاته وأدواره خارج مصر رسول قوة ناعمة تؤثر وتنير.
هناك بلا شك تقصير فى أدواره، وهذه قضية تستحق نقاشا جديا يلتزم آداب الحوار.
من بين أوجه التقصير عدم العناية الكافية بمدرسة التلاوة المصرية التى تتعرض لما يشبه التجريف الكامل.
ألفت ـ هنا ـ إلى أن بعض إرث الشيخ «محمد رفعت» قيثارة السماء وأفضل من تلا القرآن الكريم بلا منازع مجهول وغائب ـ نحو (٦٠) سورة لا يعرف أحد أين هى؟ ـ بحسب تأكيدات الدكتور «محمود غزالة» رئيس جمعية محبى الشيخ «رفعت».
أين دور الأزهر فى صلب مهامه؟
وأين دور الدولة فى تحمل مسئولية أحد مصادر قوتها الناعمة؟
أرجو ـ رابعا ـ ألا ننسى أن البعثات التعليمية، التى يستضيفها الأزهر، من مقومات قوته الناعمة واستقلال دوره من ضرورات هيبته.
بلا استقلال حقيقى فهو منزوع الصلاحية والهيبة كأنه من ملحقات السلطة التنفيذية.
استقلال الأزهر، كاستقلال القضاء والجامعات، من مقومات بناء الدولة المدنية الحديثة.
لهذا السبب بالذات نص الدستور فى مادته السابعة على أنه «هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على جميع شئونه، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم».. و«شيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء».
كانت تلك الصياغة المنضبطة فى دستور (٢٠١٤) تصحيحا للخطأ الفادح فى دستور (٢٠١٢)، الذى أقر فى سنة «الإخوان»، حيث أضفيت على الأزهر سلطة دينية تناقض مفهوم الدولة المدنية الحديثة.
على عكس «نزعة الأخونة» تتبدى الآن «نزعة الهيمنة» لنزع أى استقلال عنه باسم الدولة.
فى المرة الأولى هب المثقفون للدفاع عن استقلال الأزهر وتحرك الإعلام، بينما يكاد الصمت أن يخيم الآن.
السؤال الحقيقى الآن وهنا: أين القواعد الدستورية العامة؟
إذا لم تكن هناك قواعد تحكم فإن كل شىء مندفع إلى الفوضى.
بنص الدستور: ممنوع تأسيس الأحزاب السياسية على أساس دينى، أو الخلط بين الدينى المقدس والسياسى المتغير.
وهذه ليست مهمة الأزهر.
قبل أن نسأل الأزهر تجديد الخطاب الدينى وتنقية مناهجه التعليمية مما قد يحرض على عنف، أو عدم اعتراف، بالآخر الدينى الشريك فى الوطن علينا أن نسأل مؤسسات الدولة: أين المفوضية المستقلة ضد التمييز المنصوص عليها فى الدستور؟
أين دولة القانون والسياسات العامة التى تضمن حقوق المواطنة؟
الإجابة ليست من شأن الأزهر.
ولا غياب استراتيجية متماسكة لمكافحة الإرهاب تدخل فى مسئولياته.
ولا هو مسئول عن الانحراف التشريعى، الذى تحرش بالهيئات القضائية ويخاصم الحريات العامة، وبعض ما يطرح تحت قبة البرلمان ضد العقل والمنطق وأى مصلحة حتى بات عبئا لا يحتمل على أى استقرار ممكن.
إذا ما احترمت القواعد الدستورية فمن طبائع الأمور أن تمضى موجات الإصلاح إلى الخطاب الدينى عن اقتناع لا بالفرض.
وإذا ما اتسع المجال العام زادت فرص التوافقات الممكنة.
وهذه بدورها ليست مهمة الأزهر، كما أنه لا يتحمل ـ بأى نظر جاد ـ مسئولية تفشى الإرهاب.
كما يقال دائما: فإن الإرهاب يواجه بكل مقدرات الدولة، والأزهر جانب فى الصورة لا كلها، يتحمل قسطه فى المسئولية ولا ينوب عن الآخرين حيث أخفقوا.
بصياغة أخرى لا يصح تحميله ما تقاعست عنه السياسات العامة فى فتح المجال العام لصناعة التوافقات الضرورية بالحوار الندى لا الصراخ الإعلامى، وسد الفجوات الاجتماعية التى تحتضن جماعات الإرهاب وتحرض عليه.
بصياغة ثالثة، لا رد اعتبار حقيقى للأزهر دون بيئة عامة صحية تلتف حوله فى حدود دوره الدستورى، وتمنع من المنبع أى زوابع ضده.
وهذه قضية مصر كلها، لا الأزهر وحده.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved