وماذا لو أني طير؟

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 7 مايو 2020 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

أكثرنا تمر به لحظات يتمني فيها لو كان بوسعه أن يطير، أقول أكثرنا وليس كلنا لأنني لم أستطع بعد أن أتخلص من الحذر الأكاديمي الذي يفط من داخلي كعفريت العلبة كلما مارستُ التعميم وأطلقتُ الأحكام الجماعية، ومع ذلك فلو دققنا النظر سنجد أن مصطلحّي الحذر الأكاديمي وعفريت العلبة مصطلحان لا يجتمعان، لكن ما باليد حيلة. في الحزن والفرح معاً تراود بعضنا الرغبة في الطيران سواء للفرار من الواقع أو للفرار به، وكثير من المبدعين صالوا وجالوا في هذه المساحة الشعورية وتحدثوا عن الطير والطيران، فمن ذَا الذي ينسى جبران خليل جبران وحبه المرفرف في روايته الشهيرة "الأجنحة المتكسرة"؟ أو من عساه ينسى بهاء طاهر وطاووسه المتمرد في مجموعته القصصية "لم أعرف أن الطواويس تطير"؟. في مقابل ضيق الأرض يظهر اتساع السماء.. فسيحة بلا مدى.. مترامية بلا منتهى.. بعيدة على مدد الشوف. الحدود بين سماء وأخرى هي حدود وهمية بعكس الحدود على الأرض فهي حدود حقيقية بل ومقدسة، وتعبير المجال الجوي لهذه الدولة أو تلك هو تعبير سياسي لا طبيعي فالسُحُب لا تتورط في تقسيم السماء إلى مجالات للسيادة، التقسيم فعل حصري من أفعال البشر من ورائه سلطة وثروة ونفوذ، وعند هذا الحد أقع بكامل إرادتي في فخ التعميم فالبشر وحدهم هم الذين يُقسِمون. حرة هي الطيور في الانتقال من سماء لأخرى، تحلق في أسرابها الجماعية وتختار مواسم هجرتها وتحدد وجهتها بنفسها إن شمالًا فشمال وإن جنوباً فجنوب فلا يستوقفها درك، السماء تحرسها النجوم والنجوم لا تتعامل مع تأشيرات الدخول. من قبل أن يفطن أحد إلى أن حرية التنقل حق من حقوق الإنسان وأن هذا الحق لا يقبل التقييد كانت الطيور قد اقتنصته لنفسها ومارسته على إطلاقه، تحط على الأرض من حين لحين وتغتسل في ماء البحار أو ترتوي ثم تعلو وترتفع، ففي السماء لا قيود.. لا ظلم.. لا صراع ولا حتى كورونا.
***
أكثر من أي وقت مضى أتمنى هذه الأيام أن تنمو لي أجنحة وأطير، لا صبر لي حتى يفتح العالم أجواءه أمام طائرتي بل آخذ بعضي وأسافر إلى حيث توجد قطعة من نفسي في البلاد البعيدة، فكل وسائل التواصل الاجتماعي المعروفة لم تعد تكفي لتحقيق التواصل، هي مجرد تصبيرة والصبر ينفد وما عاد من حل إلا السفر كي تعود قطعة البازل الناقصة من نفسي إلى مكانها وتستقر. في أصعب كوابيسي لم يخطر ببالي قط أن يقفل العالم حدوده بالضبة والمفتاح، عرفنا أن الباب يُغلَق والمحل يُغلَق والنقاش يُغلَق وحتى القلب يُغلَق، أما أن العالم نفسه يُغلَق فكيف يكون ذلك؟ فاجأنا العالم وفعلها، وخرج علينا غلاف مجلة الإيكونوميست بصورة بالغة الدلالة للكرة الأرضية وعليها لافتة حمراء بلون الدم مكتوب عليها كلمة واحدة: مغلق. سدّت الدول منافذها وطوت نفسهَا على نفسِها ومنعت الدخول إليها والخروج منها، الكل يتعجل فتح اﻻقتصاد أما فتح الحدود أمام حركة البشر فلا يتحدث عنه أحد، البشر هم عنصر من عناصر الإنتاج لا أكثر ولا أقل. يتملكني شعور بالخديعة لأني مع غيري تصورنا أن العولمة ستلغي الحدود بين الدول وتعيد تعريف مفهوم السيادة، لكن بالتدريج يتبين لنا أننا عشنا في وهم كبير اسمه الحدود المفتوحة وأن هناك أسباباً بلا عدد يكفي أي واحد منها لإغلاق الحدود في وجوهنا: الحروب والإرهاب والهجرة والعقوبات والعنصرية ولم يكن ينقصنا إلا كورونا ليتحول العالم من إغلاق بعض حدوده إلى إغلاقها جميعاً، ومن الإغلاق المؤقت إلى الإغلاق المفتوح. خدعنا إذن شعار العولمة البرّاق كما خدع شعار الوحدة العربية من قبل دريد لحام في فيلم "الحدود"، تصور البطل أن عروبته هي تأشيرته للانتقال بحرية من دولة عربية لأخرى، ثم فوجئ أنه لا دولة شرقستان العربية قبلته ولا دولة غربستان فكان أن نصب خيمته على حدود الدولتين، حدث هذا على الشاشة لكن في وجود كورونا أي حدود تلك عسانا ننصب فيها خيامنا ومن يسمح لنا بدق أوتادها؟
***
آه لو أن لي جناحا طائر من طيور المسافات الطويلة لكنتُ حشوتُ أحد الجناحين بحصيلة أسفار العام كله من اللعب والحلوى والفساتين المشجرة لأفرغها يوم اللقا في حِجر طفلة دون العاشرة، ولكنتُ حشوتُ الجناح الآخر بحكايات مضحكة كثيرة فأميرتي الصغيرة تجيد الابتسام. آه لو كان بوسعي أن أطير لتخلصتُ خلال رحلتي من مخزون قلقي غير المحتمل حتى إذا بلغت مقصدي عدت وادعة ساكنة كيوم ولدتني أمي. آه لو كانت السحب تقبل أن تمطرني هناك لارتوت حديقة بيت صغير بكندا كما تقول فيروز بمشاعر لم تعرفها من قبل مياه الأمطار. لو أني أطير لاختلف أمري ومزاجي وقولي وطبعي وشكلي وكلي، لكن.. لكني أخشى أن أكون كطاووس بهاء طاهر يوم تمرد واعتلى الشجرة فتعقبه رجل الشرطة، يشجعه جمع من الناس تحت الشجرة ويهتفون له : طر.. قاوم.. اهرب لكنه مع الأسف سقط في الشبكة فلا طار ولا قاوم أو هرب فهو في الأصل لم يُخلَق ليطير، وليست كل المخلوقات تطير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved