قواعد الحكم ومعاييره

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 7 يونيو 2015 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

للصراع السياسى فى مصر تجليات عديدة تشمل مواجهات بين سلطة الحكم والإخوان المسلمين، وبين سلطة الحكم وأنصار التعددية والحكم الديمقراطى من شباب وشيوخ، وبين المنادين بتمحور السياسة والحكم حول الإسلام والداعين إلى حكم سمِّه علمانيا أو مدنيا يحترم الأديان ويضمن للناس ممارسة إيمانهم وشعائرهم، وبين المتمسكين بالسلطوية والقبضة الحديدية والتوّاقين إلى الحرية والمساواة واحترام المواطنين وحقوقهم وكرامتهم.

من تجليات الصراع أيضا الاختيار بين منهج النمو الرأسمالى غير المقيّد والنمو القائم على تلبية احتياجات الناس ورفع مستوى معيشتهم وعلى تدعيم التماسك المجتمعى من خلال تضييق الفجوات وتحقيق العدالة. الصراع السياسى له أيضا تجليات تتعلق بالتحرك الخارجى لمصر وتحالفاتها ومواقفها من الصراعات الإقليمية، القديم منها والأصيل أى الصراع العربى الإسرائيلى، وحديثها كالصراعات فى سوريا، وليبيا، واليمن.

•••

الصراع السياسى طبيعى فى كل المجتمعات الحيّة. الآفة الحقيقية ونذير الخطر هما كتمان الصراع وتجلياته، وإخفاؤها. العمليات السياسية الصحية هى التى تتناول بالمناقشة والتحليل والحجج والحجج المضادة تجليات الصراع السياسى لتصل إلى صيغ تتعايش بمقتضاها أطراف الصراع وتتعاون أيضا من أجل أن تتقدم مجتمعاتها بدون تمزقات فى العمليات السياسية وفى الأنسجة الاجتماعية.

الصراع السياسى لا ينفى التعاون بل إن منتهى النضج السياسى هو أن يجتمع الصراع والتعاون معا بين أطراف أى عملية سياسية. اجتماع الصراع والتعاون هو ما يكفل الطابع السلمى للعملية السياسية فى أى بلد، وأيا كانت ثقافة هذا البلد ومستوى تنميته الاقتصادية والاجتماعية.

الديمقراطية التعددية هى التى تجمع الصراع والتعاون فى العملية السياسية، والقبول بهما شرط لقيامها. الصراع وحده أو التعاون وحده نفى للديمقراطية وحرمان للعملية السياسية من المشاركة النشطة والمبتكرة لكل أطراف المجتمع. من نافلة القول أن الصراع ليس المقصود به ممارسة العنف وإنما التنافس من أجل أن تسود أفكار هذا الفريق أو ذاك وخططه لتحقيق القدر الأعظم من المصلحة المشتركة لمجموع المواطنين. الصراع والتعاون معا، أى الديمقراطية، هما تحصين للمجتمع من العنف وهما السبيل لإجهاضه إن نشأ.

غير أن تأطير الصراعات السياسية، أى حكم البلاد، أى بلاد، حكما لائقا لابدّ أن يستند إلى معايير وقواعد متفق عليها، وأن تندرج ممارسات هذا الحكم فى إطار الأساليب المستقرة للعمل السياسى. إن كان ثمة عجز واضح فى الديمقراطية، فالمعايير والقواعد لن تكون محترمة احتراما كاملا والممارسات ستشذّ شيئا عن الأساليب المستقرة، ولكن أى تأطير لائق للصراعات لن يضع المعايير والقواعد والأساليب المستقرة موضع المساءلة.

•••

للأسف الشديد، هذا ليس أمر الصراعات السياسية فى مصر الآن. رئيس الجمهورية أقرَ فى ألمانيا بأن فى الأحكام الجماعية بالإعدام على المئات تلو المئات ما يدعو إلى التساؤل عن تطبيق العدالة فى مصر وذلك عندما أشار إلى أن درجات التقاضى جميعها لم تستنفذ بعد وأن الأحكام النهائية قد لا تكون بالإعدام على المتهمين الصادرة الأحكام بحقهم. غير أنه وإن كانت الأحكام مؤسفة، فإن ما يدعو للوجل هو القانون الذى مكّن القضاة من إصدارها.

هذا القانون الذى صدر بقرار من رئيس الجمهورية يعفى القضاء من الاستماع إلى شهود النفى فى القضايا المعروضة عليه، وهو ما يعنى أن النيابة العامة يجوز أن تستند فى اتهامها إلى تحريات الشرطة وحدها، وأن يمكن للقضاء أن يأخذ بسلامة هذه التحريات مادام أنه لا راد عليها ولا تفنيد.

هذا القانون خروج على كل القواعد البديهية لإقامة العدالة، سواء كانت مستقرة فى شرائع حقوق الإنسان أو فى أى أنظمة قانونية أو أخلاقية سابقة عليها. وجود تهديد حال من قبل جماعات عنيفة ليس مبررا للخروج على هذه القواعد. القواعد ليست موجودة إلا لإقامة العدالة فى حق المتهمين بممارسة العنف، واحترامها هو فى حد ذاته هزيمة لفكر من يلجأ إليه.

وإجهاض التعددية بالدعوة إلى إنشاء قائمة موحّدة تخوض بها الأحزاب السياسية الانتخابات التشريعية، عندما تنعقد هذه الانتخابات، خروج على الجوهر المستقر للديمقراطية التعددية. نادرة هى الدول التى تجادل فى هذا الجوهر فى عالمنا الحالى، حتى وإن كان بعضها لا يأخذ به بشكل كامل. لقد جرّبت مصر الاصطفاف الوطنى من هيئة التحرير مرورا بالاتحاد القومى والاتحاد الاشتراكى ووصولا إلى الحزب الوطنى الديمقراطى، فماذا جنينا غير التخلف الاقتصادى والاجتماعى والثقافى والسياسى؟

•••

حقوق الإنسان برمتها تهاجم، وتلوّث سمعة الداعين إلى احترامها. طابعها العالمى يصبح سببا للشك فيها ومبررا للتحلل منها بدعاوى الخصوصية والاستقلال الفكرى، وكأنما الحق فى الحياة، والحق فى محاكمة عادلة، والحق فى احترام الخصوصية، والحق فى حرية التعبير، والحق فى الاجتماع، ناهيك عن الحقوق فى التعليم، وفى الصحة، وفى المسكن، وفى مستوى معيشى مناسب، وفى الضمان الاجتماعى، ليست من نصيب الإنسان الذى يعيش على أرض مصرية، أو عربية، أو إسلامية، وإنما هى فقط من اختراع وقسمة الإنسان الذى يحيا على أراض «غربية». مهاجمة حقوق الإنسان وتلويث نشطائها خروج لا يستحى على القواعد العالمية المستقرة، فضلا عن أنه استهانة بقدر الإنسان الذى يعيش على أراضينا.

فى أمر الممارسات، وهذه لها أيضا قواعدها المستقرة، تثور مسألة دعوة شيخ الأزهر لرئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسى لزيارتها فى مكتبه فى القاهرة. هذه سياسية عنصرية رئيسية لحزب عنصرى يعادى العرب والمسلمين، والأفارقة، وكل من هو غير أبيض، بل إنها تخاصم الأوروبيين أنفسهم من غير من يشاركونها أفكارها العنصرية وغير الديمقراطية. عن والدها ورثت الحزب والعنصرية، ولكنها حوّلتها من عنصرية موجهة ضد اليهود عند أبيها إلى عنصرية موجهة ضد العرب والمسلمين وغيرهم من أبناء الشعوب غير البيضاء، وهى مثل أبيها تتقوقع على الذات القومية التى أججت العداوات فى أوروبا وأنزلت بالقارة العجوز دمارا وكلفتها عشرات الملايين من القتلى خلال ثلاثين عاما من القرن العشرين.

أفكار الجبهة الوطنية العنصرية ونزعتها القومية جعلت الأحزاب الفرنسية تعمل على عزلها وهو ما تفعله الأحزاب فى دول أوروبية أخرى مع الحركات العنصرية الشبيهة. هل يتطوع الأزهر الشريف بانتشال الجبهة الوطنية الفرنسية من عزلتها؟! هل يصلح اجتماع واحد فى تصحيح «المفاهيم المغلوطة» عن الإسلام، إن كان هذا أصلا مدخلا مناسبا لمثل هذا التصحيح؟ حقيقة الأمر أن رئيسة الجبهة الوطنية ستستغل هذا الاجتماع لتنفى عن نفسها شبهة العنصرية فى الوقت الذى ستستمر فيه فى مواقفها المناوئة للعرب والمسلمين وللأجانب عموما. فى استقبال شيخ الأزهر لرئيسة الجبهة الوطنية الفرنسية تخل عن مجموعات المهاجرين وخروج على مواقف كل الداعين إلى احترام الإنسان من الأحزاب والحركات العنصرية فى أوروبا.

•••

وأخيرا، وقد أريق حبر كثير فى التعليق فى الأيام الأخيرة على ضم عدد كبير من الفنانين إلى الوفد المصاحب لرئيس الجمهورية فى زيارته لألمانيا بدون أى وظيفة لهم يضيفوا بها للوفد، يكفى فقط القول بأنها ممارسة لا تمت إلى السياسة بصلة وهى ابتذال لها. زيارة رسمية لرئيس الجمهورية ليست بعثة لفريق لكرة القدم يصطحب معه مشجعيه. هذه ممارسة تخرج على القواعد المتعارف عليها للزيارات الرسمية بين الدول ولتحقيق الأغراض المبتغاة منها.

القواعد والمعايير تنشىء المجتمعات، الدولى منها والوطنى، وتحفظها. التشكيك والخلط فى القواعد هما تقويض لأسس التعايش الداخلى والخارجى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved