أنسنة القضية الفلسطينية

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 7 يونيو 2021 - 7:20 م بتوقيت القاهرة

برغم تعقيداتها الجمة، تظل فضاءات التفاعلات الكونية أشد رحابة مما قد يتراءى للكثيرين. فمن بين أدوات متنوعة وأبعاد متعددة، يتعاظم حضور الاتجاهات الإنسانية فى ميادين العلاقات الدولية، بما يفتح الباب على مصراعيه أمام اعتماد مقاربة إنسانية فى عرض القضية الفلسطينية بالمحافل العالمية. فعبر دبلوماسية غير تقليدية، تنبثق من القانون الدولى الإنسانى وميثاق الأمم المتحدة، كما تتبنى خطابا أخلاقيا يغزو القلوب قبل مغازلة العقول، يمكن استمطار نصرة المجتمع الدولى للمستضعفين من أصحاب الحقوق المهدرة فى زماننا.
إدراكا منها لعمق تأثير المنظور الإنسانى فى مخاطبة الغرب، حرصت الحركة الصهيونية، منذ تأسيسها، على احتكار قصب السبق فى توظيفه لاستعطاف العالم واستجداء دعمه لمشروعها الاستيطانى الاستعمارى التوسعى. وفى سبيل ذلك، حشدت الأموال، وأطلقت آلتها الدعائية الجبارة، كما جيشت جماعات المصالح واللوبيات الضاغطة الموالية فى عواصم العالم المختلفة. وبمجرد إعلان قيام الدولة العبرية عام 1948، أبى الإعلام الإسرائيلى إلا التفوق على نظيره العربى والفلسطينى فى التواصل مع الرأى العام الغربى، واستمالة النافذين فى عواصم القرار الدولى.
تنحو المقاربة الإنسانية فى التعاطى مع القضية الفلسطينية باتجاه استجلاء المشروعية الإنسانية الناظمة لنظيرتيها الأخلاقية والقانونية، والتى ارتضتها مجتمعة، جميع حركات التحرر الوطنى على مدى التاريخ البشرى، مرجعية ومنهاجا. ولست أرى فى غير تحرر الفلسطينيين والعرب من إسار الاستغراق المُخل فى السرديات الدينية والسياسية للقضية، باختزالها فى الصراع على الأرض والحدود والمقدسات فحسب، بداية مُثلى على هذا الدرب. فلقد حان الوقت لإبراز سجاياها الإنسانية والحقوقية والأخلاقية، والتركيز على قيم السلام، والحرية، والتعايش السلمى المشترك، وحق تقرير المصير. مع العمل بدأب لتصحيح الصور الذهنية النمطية السلبية التى علقت دهرا فى مخيلة الغرب عن الفلسطينيين.
حرى بالمنصات الإعلامية الفلسطينية، تقليدية كانت أو افتراضية، تبصير العالم بالمأساة الناجمة عن تحول قطاع غزة إلى سجن هائل لما يناهز مليونا ونصف المليون فلسطينى، يعانون الأمرين تحت نير حصار جائر فرضته إسرائيل منذ انسحابها الأحادى الاضطرارى منه عام 2005. كذلك، ينبغى فضح عمليات الإجلاء القسرى غير القانونى للفلسطينيين المسالمين من بيوتهم فى القدس ومحيطها. فضلا عن قتل واعتقال أطفال الحجارة، والإمعان فى استخدام القوة غير المتناسبة لقمع حقهم فى التعبير عن رفض الاحتلال، والذى تكفله وتحميه اتفاقيتا جنيف الثالثة والرابعة، كما القرارات الأممية ذات الصلة. ومن الأهمية بمكان، كشف سياسة «أبرتهايد»، التى يمارسها الاحتلال ضد سبعة ملايين فلسطينى مبعثرين فى ربوع الأراضى المحتلة، مع تسليط الضوء على معاناة قرابة مليونين آخرين يصارعون الإقصاء والتمييز العنصرى الممنهج داخل المدن والبلدات الإسرائيلية. ففى أحدث تقاريره بهذا الصدد، أكد البنك الدولى انزلاق ثلث الشعب الفلسطينى، وأكثر من نصف عرب 1948 تحت خط الفقر، وتخطى معدل البطالة داخل قطاع غزة من 70 %.
تبقى مأساة المرأة الفلسطينية فى ظل الاحتلال بمثابة ذروة سنام الخروقات والانتهاكات الإسرائيليلية لمختلف القواعد القانونية، والقيم الأخلاقية، والمبادئ الإنسانية. فكم من شهيدة أو ضحية للعدوان، أو أرملة لشهيد أو معتقل، أو أم أو ابنة أو أخت لأسير أو شهيد. ولا تفتأ سجون الاحتلال تعج بآلاف الأسيرات، من ضحايا سياسة الاعتقالات الجماعية التعسفية، واللائى تكابدن أوضاعا قاسية من التنكيل الممنهج وسوء المعاملة، والإهمال الطبى المتعمد، حتى اضطرت كثيرات منهن أن تضعن حملهن داخل مراكز الاعتقال. ولطالما دقت دراسات علمية ناقوس الخطر، محذرة من التداعيات الصحية والاجتماعية المروعة، التى ترخى بظلالها على المجتمع الفلسطينى برمته، جراء تلك المآسى.
لقد أبلى الفلسطينيون بلاءً حسنا فى استخدام منصات الفضاء الإلكترونى خلال الحرب الإسرائيلية الرابعة على قطاع غزة الشهر المنقضى، إذ برعوا فى تصوير معاناة فلسطينيى الداخل، ومأساة ذويهم فى باقى الأراضى الفلسطينية المحتلة بالضفة والقطاع والقدس. وهو الإبداع الذى تمخض عن تغيير، لا تخطئه عين، فى انطباعات الغرب حيال القضية، إلى الحد الذى ارتدت أصداؤه فى مواقف حكومات غربية عديدة إزاء العدوان الإسرائيلى الأخير. فمجددا، عاد التأكيد على ضرورة حل الدولتين، باعتباره الضمانة الوحيدة للحيلولة دون تكرار أعمال العنف فى تلك المنطقة الملتهبة، فضلا عن حفظ الأمن والاستقرار العالميين. وبموازاة ترديدها لفرية تفهم حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها، لاحت أطروحة منح الشعب الفلسطينى فرصة مواتية للعيش بكرامة. أما أمريكيا، فقد اتسعت دائرة تأييد حل الدولتين لتطال نخبة الحزب الديمقراطى اليسارية، وعدد من الساسة الوسطيين، إضافة إلى الجوقة المؤيدة لإسرائيل، من أمثال عضوى الكونجرس تشاك شومر وروبرت مينينديز وغيرهما، فيما طفق مراقبون غربيون كثر يعيدون النظر فى تصوراتهم بشأن «الضحايا» الحقيقيين للصراع الفلسطينى الإسرائيلى.
وبينما أبدى الرأى العام العالمى تعاطفا مدويا مع الفلسطينيين إبان العدوان الإسرائيلى الأخير على القطاع، حيث امتلأت وسائل التواصل الاجتماعى بحملات التنديد والتضامن غير المسبوقة، أظهر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة دعما حقوقيا موحيا، حينما اعتبر العدوان الأخير على القطاع جرائم حرب ضد المسالمين العزل والأعيان المدنية. وفى تطور غير مسبوق، اجتذبت موجات التعاطف مع الفلسطينيين بعض مشاهير هوليوود، أمثال مارك رافالو، وفيولا ديفيس، وحتى الإسرائيلية نتالى بورتمان. فى حين توارت، على غير العادة، التصريحات المؤيدة لإسرائيل من قبل غالبية نجومها، باستثناء تغريدة الإسرائيلية غال غادوت، التى اضطرت لإلغائها بعدما قوبلت بانتقادات لاذعة.
فليس بخاف تمكن إسرائيل، منذ إعلانها عام 1948، من تجنيد مسئولى هوليوود، من ذوى الأصول اليهودية، لتجميل صورتها عالميا بتقديمها كدولة ديمقراطية مسالمة ومتحضرة، تصارع محيطا عربيا همجيا ومتخلفا. بيد أن المقاربة الإنسانية التى تبنتها كتائب النضال الفلسطينى عبر العالم الافتراضى خلال الأسابيع الأخيرة، قد زعزعت السرديات الإسرائيلية التى هيمنت على الرأى العام الدولى طيلة عقود سبعة خلت، بعدما بدأت فى تعرية المشروع الصهيونى من دثاره التجميلى المصطنع، الذى نجحت آلته الدعائية فى تسويقه عالميا، فى غيبة أو تقاعس من نظيرتها العربية.
آن للفلسطينيين أن يقدَروا قوتهم الناعمة المتنامية حق قدرها، لتتبوأ مكانتها اللائقة ضمن استراتيجيتهم النضالية لاستعادة حقوقهم التاريخية المسلوبة. فحينئذ، تستطيع القضية، التى شاخ زمانها واستعصت تسويتها، أن تتجاوز حدود الاعتبارات القانونية والحسابات السياسية، لتُحلق فى آفاق أرحب مع المشروعية الإنسانية والأخلاقية للحقوق الفلسطينية المغدورة. ولقد أماطت الدراسات النفسية، التى أجريت على الشخصية الغربية، اللثام عن جهوزيتها اللافتة للتجاوب مع المثيرات الإنسانية، علاوة على قابليتها للتأثر بالأبعاد الأخلاقية والثقافية للقضايا التى تطرح عليها، كلما عز الوقت والجهد اللازمين للاضطلاع على الحجج القانونية ومتابعة التفاصيل السياسية.
أرى الضمير العالمى اليوم أكثر تقبلا من أى وقت مضى، لإعادة اكتشاف الإرث الحضارى والإنسانى لتلك البقعة الحيوية من الأرض، عبر إطلالة فلسطينية، تمتطى صهوة المنصات الإعلامية التقليدية، وتغزو الفضاء الإلكترونى، وتعتلى منابر الفنون، بمختلف مشاربها، لاسيما الدرامية والسينمائية، التى أضحت ضيفا فلسطينيا مرحبا به فى شاشات الغرب ومهرجاناته الفنية. ولكم استوقفنى إعلان تحالف حزبى موالٍ للكريملين يسمى «روسيا العادلة.. وطنيون من أجل الحقيقة»، انضمام النجم الهوليوودى الشهير ستيفن سيجال، إلى صفوفه مؤخرا. وبعدما تبادلا إبداء الإعجاب ببعضهما البعض، قام الرئيس الروسى بمنح سيجال الجنسية الروسية عام 2016. لكن الذى استرعى انتباهى، حقا، فى تلك الواقعة، ما عهد به بوتين إلى النجم الأمريكى عام 2018، بأن يعمل على تعزيز أواصرالتقارب الإنسانى بين واشنطن وموسكو، اللتين تدهورت علاقاتهما إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة.
أخيرا وليس آخرا، تقتضى المقاربة الإنسانية للقضية الفلسطينية، وضع نهاية لمساعى بعض الدول أو التنظيمات والتشكيلات الحزبية، لتسييس تلك القضية، بغية استغلالها لمصالح فصائلية أو مآرب استراتيجية. كما تستوجب أيضا طى صفحة الانقسام الفلسطينى المتمثل فى ثنائية «حماس ــ فتح»، أو «غزة ــ الضفة». وألمس فى تأكيد الرئيس السيسى على ضرورة توحيد الجبهة الداخلية الفلسطينية تحت مظلة منظمة التحرير، بالتزامن مع استضافة القاهرة الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، بقصد بلورة رؤية جامعة للتحرك الوطنى، فرصة رائعة لرأب الصدع، وتوحيد الكلمة، وإيجاد شريك تفاوضى فلسطينى متماسك. فعساه يسمو فوق الخلافات البينية، ويعلى من المصلحة الوطنية، ليستثمر التعاطف الدولى الراهن، فى إحياء مفاوضات التسوية التى تيبست منذ العام 2014، أو إطلاق عملية سياسية جديدة، تنعش آمال الفلسطينيين فى إقامة دولتهم المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved