حكايات آخر زمن

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 7 يونيو 2022 - 10:07 م بتوقيت القاهرة

قبل يومين قضيت نهارا بكامله بصحبة شاب فى الثلاثين من عمره زاملنى لعامين بعد تخرجه. يعنى يعرف عنى، عن بعض تاريخى وطباعى وأولوياتى أشياء، وأعرف عنه، منه ومن غيره، أشياء أكثر. عشت معه نهارا مثمرا. لم أمل للحظة واحدة. أظن أننى لم أحاول إخفاء استمتاعى بالمسالك التى اختار النقاش الخوض فيها. خلعت فور بدء الزيارة روب الأستاذية وطلبت منه أن يتصرف ويتكلم كما يتصرف ويتكلم مع أقرانه من الشباب. ينسى أنه يتصرف ويتكلم فى حضور رجل من زمن آخر. كان الطلب صعب التنفيذ أو هكذا اتضح. ففى ظنه ربما أو فى قناعته أننى لم أعد أحمل الكثير من قسمات الشباب وانفعالات عواطفهم ودفء مشاعرهم وجسارة ردودهم. لا شك أنه كان يخيل للشاب الجالس أمامى أن هذا الرجل الواقف أمامه يستحيل عليه أن يفهم ما يدور فى أذهان الشباب وإذا فهم فلن يُقدر وإذا فهم وقدر سوف تبقى فجوة الزمن بينهما واسعة لن يتخطاها أى منهما ليصل إلى الآخر أو حتى ليقترب منه.
• • •
عشت بعض أو معظم سنوات شبابى وسنوات منتصف العمر أتخيل أننى لن أعيش لأكون فى هيئة وتصرفات هذا الرجل المسن الذى كنت أراه وهو يمشى فى شارعنا يهز بعصاه الهواء ويضرب أغصان الأشجار ويطرد الأطفال وفى اليد الأخرى ما يهش به أو بها الذباب. كنت أراه وهو دائما بذقن غير حليق ولم تكن أبدا من لون واحد، لا هى بيضاء ولا هى سوداء ولا هى رمادية. ملابسه نظيفة وحذاؤه يلمع. يطل على الشارع فيتوقف اللعب حتى لا تصيبه الكرة أو يصطدم به أحدنا فيغضب ولغضبه يغضب أهالينا.
• • •
أنا من عائلة قديمة لم تنجب ذكورا بعدد من أنجبت من الإناث. على كل حال لم يتح لى أن أقابل جدا من الاثنين، جدى لأبى وجدى لأمى. رحلا قبل وصولى. أما الجدتان فواحدة منهما أذكر من صورة فوتوغرافية أنها كانت دائما تجلس على كرسى مرتفع وفى يدها بندقية لا تفارقها ووجهها يعكس صرامة لا تخطئها عين. زوجها الذى هو جدى لأبى أذكره من الصور يرتدى زيا يجمع بين ضرورات مهنتين، مهنة مثقف تلك الأيام ومهنة رجل الأعمال بصفته وراقا وصاحب مكتبة، يقال إننى زرتها مع والدى وأنا صغير جدا، وكانت تقع بميدان السيدة زينب. لا جد لى حملنى أو أجلسنى على حجره أو احتضننى. لم أختبر كطفل حنان رجل مسن. عشت طفولة وربما سنوات مراهقة أتصور أن الجدود لأنهم رجال ومسنون فهم لا يعيشون ليراهم الأحفاد. أخشى أن أعترف بأننى فكرت كثيرا فى أنهم حتى لو عاشوا لما اهتموا بأحفادهم. تصورتهم قساة القلب وملتهين بأنفسهم. تصورت الجدين على هذا النحو ربما لأننى لم أغفر لهما أنهما رحلا. عشت طفلا وشابا ثم رجلا أغضب كلما تخلى عنى أحد فى العائلة ورحل.
• • •
فى حياتى رجال كثيرون قرروا أن يلعبوا أدوار المسنين وما زالوا فى منتصف العمر. لى زميل عملنا معا فى الخارج يكبرنى بعامين أو ثلاثة كنا فى العشرينيات عندما بدأ يصبغ شعره بألوان رمادية ويرتدى ملابس داكنة ويختلط بالمسنين، يرتاد مقاهيهم ويتكلم مثلهم. على عكسه قرر أبى أن يتقاعد وما زال فى مرحلة منتصف العمر. خاف على نفسه لو بقى فى الوظيفة الحكومية أن يشيخ قبل الأوان. كتب لى وقد تجاوز الستين يبرر قرارا ينوى اتخاذه. جاء فى الرسالة أنه وقد عاش وحيدا لسنوات بعد رحيل أمى بدأ يشعر بأن دماء دافئة عادت تجرى فى عروقه ونشاطا يحل فى أطرافه وأفكارا خلاقة تلهب فكره.
• • •
أعيش أياما ليست كأيام عشتها من قبل. أعيش فى أيام لها معنى. لكل يوم منها اسم ووزن. كنا نسمى الأيام ونعرفها بالأحداث الجارية حولها أو السابقة عليها أو اللاحقة لها. عشنا أيام الحرب العالمية أو أيام سابقة عليها أو لاحقة لها. أيامى الراهنة أيام من صنعى أنا ومن أجلى أنا. أحياها بحرص. أخاف عليها مما يجرى حولها وأغلبه ليس من صنعى ولا يجب أن يؤثر فى حياتى وتصرفاتى، أى فى أيامى إلا بالقدر الذى أريد. لا أحمل يومى مسئولية ما سبقه من أيام وأحداث. لكل يوم استقلاليته وحريته. لا أعامل أيامى كما يعاملها غيرى من البشر. تختلف المعاملة ليس فقط لأننى صرت فى هذا العمر مختلفا ولكن أيضا لعامل الندرة، فأيامى لن تكون بوفرة الأيام وأنا فى العشرين أو الأربعين أو حتى الستين. هذه أيامى وهى معدودة وتلك أيام الزمن وهى وفيرة. لم أكترث وأنا أصغر عمرا بالأيام الغزيرة فهذه كانت أموال مشاع يغرف منها من يشاء ما يشاء ثم يلقى بها غير مهتم بمصيرها. أيامى أغلى وأحلى. أخاف عليها من ظلم الزمن. أحميها من الزمن. أخاف عليها من جشع البشر. لا أحد غيرى يقترب منها إلا فى وجودى وبترتيبى وتحت مراقبتى حتى لا يتغول الغريب فيها كما تعود أن يفعل فى أيام الزمن.
أيامى وهى قليلة ولكن رائعة لا أنهكها. لا أثقل عليها بذكريات ماض ثقيل. لا أجرها معى إلى مغامرات خائبة. أشركها لتحكى معى حكايات نسجناها معا. أدعوها لتعرف أنها محظوظة لوجودها معى. هيبتها محفوظة وقيمتها تتضاعف ودائما فى غدها أحلى من أمسها.
• • •
نهض الشاب مستأذنا فى الانصراف. وصل عند الباب وتوقف ثم استدار ليقول: «أنا سعيد بما سمعت ورأيت. سمحت لى أن أقضى معك يوما من أيامك، كان بالفعل يوما مختلفا عن أيامى التى أعيشها. أتمنى أن تكرر الدعوة».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved