الاستشراق و«الغرب» والإسلام السياسى

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 7 يوليه 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

«الغرب» و«الشرق» مفهومان من انتاج الاستشراق. هما مفهومان لصيقان لا يمكن أن يوجد واحد منهما دون الآخر، غير أن المفهوم المركزى فيهما هو «الغرب»، لأن النظرية الاستشراقية، تبغى تحقيق مصالح ذلك المجموع الذى أطلقت عليه تسمية «الغرب».

 

جوهر الاستشراق هو المقولة الشائعة أن «الشرق شرق والغرب غرب وأنهما لن يلتقيا قط». فى هذا العالم المتخيل، من ينتمون إلى الغرب ومن ينتمون إلى الشرق يسيرون فى طريقين متوازيين لا يلتقيان وبالتالى فإنهم يخضعون لقواعد وقيم ومبادئ مختلفة. ولأن الفاعلين الحقيقيين فى التاريخ الإنسانى، الذين أبدعوا العلم والفن، واكتشفوا الطرق البحرية والقارات هم «الغربيون» فلا شك أن القواعد والقيم والمبادئ الخاصة بهم هى أسمى من تلك التى تنظم حياة «الشرقيين». السموُ فى السلوك يعطى الحق فى السموِ فى المكانة وفيما يرتبه هذا السمو من امتيازات. الحقيقة هى أن الاستشراق لا يتخيل طريقى «الغرب» و«الشرق» على أنهما متوازيان متساويان مثل قضيبى السكة الحديد وإنما هما متوازيان ولكن يعلو واحد منهما الآخر ويفضله.الاستشراق بهذا المعنى مفهوم حديث يرجع إلى القرن التاسع عشر، وهو فى الأدب والفن صوَر حياة لا وجود لها فى واقع «الشرق»، وفى السياسة وفَر بخبث الأساس الفكرى للاستعمار.

 

المدهش حقا هو أن بين ظهرانينا من وقع فى الفخ واعتنق تخيل الاستشراق للعالم. الإسلام السياسى رأى بدوره أن القواعد والقيم والمبادئ المنظمة للحياة فى الأرض التى يعيش فيها المسلمون مختلفة، وبالتالى أراد أن يكون لهم طريقهم الموازى المختلف، ولأنه يؤمن أن مبادئه وقيمه الدينية هى الأفضل فإنه اطمأن إلى أنها هى التى ستسود ويكون طريقها هو الأعلى بين الطريقين المتوازيين. غفل القائلون بالإسلام السياسى عن أن الواقع على الأرض، والذى تحدده علاقات القوى بين البشر، هو الذى يحدد أى الطريقين هو الأسمى، وأن الواقع واحد. «الغربيون» المعتنقون للاستشراق، لأن ليس كل من يعيش فى «الغرب» ويتعامل معنا ومع قضايانا استشراقيا، ارتاحوا إلى تحليل الإسلام السياسى، لأن معناه الضمنى هو أنهم سيتركون لحالهم ينعمون بالسير فى الطريق الأعلى، يطلُون منه على ساكنى الطريق السفلى ويحددون لهم خط سيرهم، وهم ارتاحوا إلى حجة الإسلام السياسى، ألا وهى أن كل المسلمين، أو أغلبيتهم الساحقة، راضون عن طريقهم المتوازى السفلى، لأن فيه تأكيدا لسلامة نظريتهم.

 

●●●

 

الاتفاق منعقد بين الاستشراقيين فى «الغرب» والإسلام السياسى على تخيل العالم، وإن كان الاتفاق ضمنيا. كل منهم يعتقد أنه الأذكى وأنه المسفيد فعلا من الاتفاق. هذا التخيل للعالم هو ما حاربه لعقود إدوارد سعيد وكتب فيه كتابه العمدة «الاستشراق»، وتناوله فى كتب أخرى مثل «الثقافة والامبرياية» و«تغطية الإسلام فى وسائط الاتصال»، وهو التخيل الذى دخل بسببه فى سجال طويل استمر العقدين مع المؤرخ البريطانى الأمريكى برنارد لويس، ذاك نفسه الذى ألهم صامويل هنتنجتون نظريته الهدامة عن صراع الحضارات، والذى كان المستشار غير المعلن للرئيس جورج بوش الابن وللمحافظين الجدد الذين كانوا وراء الحرب فى العراق ثم وراء تفكيك مجتمعه على أسس دينية، وعرقية، وطائفية، ومذهبية.

 

التخيل الاستشراقى واضح فى نظرة «الغرب» للتطورات السياسية فى بلداننا، اعتبارا من انطلاق الصحوة  العربية فى نهاية سنة 2010 وبداية سنة 2011 وحتى الأزمة السياسية المصرية التى احتدمت فى نهاية شهر يونيو وبداية يوليو 2013. شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية شعارات كونية انسانية جامعة تهدم من أساسها نظرية الطريقين المتوازيين، ولذلك فهى ليست مريحة. الاستشراقيون يريدوا أن يركنوا إلى تخيلهم للعالم. فى القرن العشرين حارب الاستشراقيون حربا لا هوادة فيها الوطنية المصرية الممثلة فى الوفد المصرى وفى جمال عبد الناصر لأنهما اعتنقا مبادئ إنسانية جامعة الهمت حركات التقدم فى بلدانهم هم، لأنهما بذلك حرموهم من مبررات تميزهم المصطبغة بصبغة أخلاقية. فى القرن الحادى والعشرين فى أعقاب الصحوة العربية هم يرتاحون أكثر إلى الداعين للإسلام السياسى لأن لهم اهتماماتهم وأولوياتهم و هم لا يؤرقوهم بالمطالبة بتطبيق نفس القواعد والمبادئ والقيم عليهم، وهم لا يتصورون عالما واحدا وطريقا واحدا يسير فيه كل البشر، وإن تعددت معتقداتهم الدينية وممارساتهم الثقافية المحترمة جميعا.

 

●●●

 

فى الأزمة السياسية المصرية الجارية، كرر «الغربيون» الاستشراقيون التنديد بالإطاحة بالرئيس المنتخب، واكتفوا بذلك. واضح أن الاستشراقيين توقفوا عند الديمقراطية الإجرائية ولم يعيروا انتباها لقيم الديمقراطية وأهدافها، أو لم يهتموا بها عند من أرادوا لهم سلوك الطريق الموازى السفلى. لم يبال الاستشراقيون بجزء ثمين من مصر، سيناء، وقد اقتطعه منها العنف السياسى، ولا أرقت خاطرهم حقيقةً الطائفية والمذهبية الفجة التى تقطِع فى أوصال مصر، ولا أزعجهم حقا الاعتداء على حقوق المرأة ومكتسباتها لما يقرب من القرن وربع القرن من الزمان، ولا صدمهم الموقف من حقوق الإنسان ومن الحق فى التنظيم ومن النشاط الأهلى، ولا ضايقهم الخطاب المعادى للثقافة العالمية، ولا استعجبوا من تعيين محافظ على آثار ارتكب عندها فريقه مذبحة مروعة. دعك من عملية صياغة الدستور واعتماده، وأزمات الكهربا والوقود ووصول المياه إلى الحقول، فهذه لا تخص إلا حياة المصريين. 

 

المصريون الديمقراطيون هم أيضا غير مرتاحين تماما لعزل الرئيس المنتخب. ولكن يزعجهم الخطاب الاستشراقى الاستعلائى المكرر عن مجرد الديمقراطية الإجرائية، وكأنما، مرة أخرى، يكفيهم هذا القدر من الديمقراطية وهو كل ما يمكن أن يطمحوا إليه عند طريقهم السفلى. المصريون الديمقراطيون كانوا ينتظرون مناقشة لمجمل قضية الديمقراطية التى جانب الصواب عملية التحول إليها منذ الأسابيع التى تلت سقوط الرئيس الأسبق مباشرة.

 

●●●

 

الممارسة الديمقراطية فى أزمة حقيقية، ولكنها ليست كذلك فى مصر وحدها أو فى تونس. فى عالم تتسارع فيه الأحداث، وتتكائر مصادر المعلومات، وتتعدد قنوات المشاركة السياسية وأشكالها، الديمقراطية فى أزمة أيضا، ليس من حيث إجراءاتها وإنما من حيث نتائجها، وهو الأهم، فى بلدان واقعة فى أطراف «الغرب» نفسه. الاستشراق والاستشراقيون فى «العرب» وفى «الشرق» يجعلون من الديمقراطية مسخا، ويحولون دون تطورها ودون توحد الجنس البشرى.

 

 

 

أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved