رسائل الاتحاد الأوروبي التي تهمنا

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 8 يوليه 2019 - 10:47 ص بتوقيت القاهرة

الأسبوعان الماضيان كانا بالغى القسوة على من يريد الكتابة عن أوضاع العالم العربى، ويعرف أن قراءه منقبضين بسبب ما يجرى حولهم من أحداث محبطة، ولذلك فهو يتلمس تطورات تدعو إلى الأمل، فلا يجدها فى كل بلاد العرب من المحيط إلى الخليج، ولكنه يسعد عندما يلتمس قبسا من الضوء يأتى من خارج الوطن العربى، فيتشبث به، ويتمنى من قرارة نفسه لو أننا تعلمنا مما يحدث خارجه. لن أطيل على القارئ فى تعداد ما يدعو للحزن فيما يجرى فى منطقتنا. خذ عندك انعقاد ما سمى بورشة البحرين التى بحثت ما عرضه جاريد كوشنر من ملامح شق اقتصادى يدعو للسخرية يعرضه على الفلسطينيين مقابل قبولهم باجتثاث أراضيهم لصالح المستوطنات، والتخلى عن القدس عاصمة لهم، وترك اللاجئين الفلسطينيين تحت رحمة الحكومات العربية، هذه الصفقة التى خجلت معظم الحكومات العربية عن مساندتها علنا، وكانت حكومة الكويت ومجلسها النيابى هما الأشجع فى كل دوائر الحكم العربية بإعلان رفضها لها والامتناع عن المشاركة فيها على أى مستوى. أو تأمل فى مغزى ذلك الاجتماع الذى جرى فى القدس تحت رعاية الحكومة الإسرائيلية والذى ضم جون بولتون مستشار الرئيس الأمريكى لشئون الأمن القومى، وصاحب الخلفية المعروفة التى جمعته بالمحافظين الجدد على عهد الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش، وهم الذين خططوا وأشرفوا على تنفيذ الاحتلال العسكرى للعراق، والذى قلب موازين القوى فى الشرق الأوسط لصالح كل الدول غير العربية فيه، وشارك فى الاجتماع معه كل من مستشار الرئيس الروسى للأمن القومى وكذلك مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلى لنفس المسائل. روسيا التى كنا نظن أنها نصير العرب تجتمع مع الولايات المتحدة وإسرائيل فى القدس لبحث مصير سوريا، وبالطبع للوصول إلى توافق يحظى بموافقة كل من عدوى العرب الآخرين حول مستقبل وطن عربى عزيز، طبعا دون أن يكون هناك ممثل لأى دولة عربية، ولكن الأعجب أن هذا الاجتماع المهين للكرامة جرى دون أن يستحق أى تعليق من أى من الحكومات العربية، ولا من الجامعة العربية. بل على العكس كثير من هذه الحكومات سعدت سرا بانعقاد هذا الاجتماع لأنهم تصوروا أن موضوعه الأساسى هو كيفية الحد من الوجود الإيرانى فى سوريا، وهو ما يثلج صدورهم، طالما أنهم انساقوا وراء الرؤية الأمريكية التى ترى أن الخطر الأساسى على الدول العربية هو من إيران، وليس من إسرائيل التى تحتل أراضى فلسطينية وسورية ولبنانية، فضلا عن سجلها العدوانى مع مصر والأردن والعراق وتونس. ثم لحق هذا الاجتماع عدوان إسرائيلى على مواقع سورية، راح ضحية له عشرات من المدنيين والعسكريين، دونما احتجاج من أى دولة عربية، ولا تعليق من الجامعة العربية، وكأن سوريا تقع خارج الوطن العربى، أو أنها لم تكن من الدول المؤسسة لهذه الجامعة.

صحيح لم يخل الأمر من تطورات تدعو إلى الأمل فى بعض الدول العربية وخصوصا فى السودان والجزائر، فقد قبل المجلس العسكرى الحاكم فى السودان تحت ضغط الجماهير السودانية وبناء على اقتراح تقدمت به إثيوبيا والاتحاد الإفريقى بخطة طريق للمرحلة الانتقالية فى ذلك البلد العربى العزيز تتضمن مشاركة فى االسلطة مع القوى المدنية فى حركة الحرية والتغيير وذلك على مستوى كل من المجلس السيادى ومجلس الوزراء، ولكن علينا أن ننتظر كيف سيجرى تنفيذ هذا الاتفاق، والذى لا شك أن العسكريين السودانيين قبلوه على مضض. كما يدعو إصرار المواطنين الجزائريين على إسقاط كل رموز النظام القديم بكل فساده على الإعجاب بموجة ثورية جديدة فى الوطن العربى تتعلم فيها جماهير الشعب من أخطاء موجة ثورية سابقة. علينا هنا أيضا أن ننتظر لنرى إلى أى حد سوف تستجيب المؤسسة العسكرية الجزائرية لتطلعات المواطنين المشروعة.

***
أطلت فى هذه المقدمة لكى يتبين القارئ لماذا نلتمس بصيص الأمل فيما يجرى خارج الوطن العربى، والتمست علامات مشجعة فيما جرى من اتفاق بين قادة الاتحاد الأوروبى الأسبوع الماضى على الشخصيات التى ستتولى إدارة مؤسسات الاتحاد خلال السنوات الخمس القادمة، وهى تحديدا من سيتولى رئاسة المفوضية الأوروبية والتى هى الذراع التنفيذى للاتحاد أو جهازه البيروقراطى، ومن سيرأس المجلس الأوروبى وهو جهازه السياسى الذى يضم رؤساء الحكومات، ومن سيعبر عن موقف الاتحاد فى الشئون الخارجية، ومن سيدير البنك المركزى الأوروبى، وأخيرا من سيرأس البرلمان الأوروبى. هذا الاتفاق ينطوى على علامات عديدة مشجعة أتمنى أن نهتدى بها فى الوطن العربى، وهى أولا تسوية الخلافات من خلال التفاوض، والاعتراف بالتقدم الهائل الذى أحرزته المرأة الأوروبية مما يدعو إلى التقدم على طريق المساواة النوعية على جميع المستويات، واحترام التعددية السياسية والإيديولوجية فى القارة الأوروبية، والحرص على تحقيق التوازن بين الدول المكونة للاتحاد وأقاليمه الجغرافية الفرعية، وأخيرا استبعاد الاتجاهات المتطرفة المعادية لروح الديمقراطية من أن يكون لها نصيب فى توجيه شئون الاتحاد. وأناقش هذه العلامات المشجعة بقدر من التفصيل.

أول هذه العلامات هى أن التفاوض كان سبيل الوصل إلى اتفاق، ومن ثم ليس هناك إملاء من أى طرف على الأطراف الأخرى، وأن التفاوض ينتهى بالعادة بحلول تكون مرضية لكل الأطراف كما أن كل طرف يدخل فى المفاوضات بروح منفتحة وباستعداد للتنازل، وقد حدثت تنازلات، ولم تكن الشخصيات التى حصلت على موافقة رؤساء الحكومات هى المرشحون الأصليون، وإنما حدث تبدل فى الترشيحات عندما بدا أن بعض المرشحين قد لا ينالون موافقة كل الحكومات الحاضرة أو قد لا يلقون الموافقة من البرلمان الأوروبى. تصوروا أعزائي القراء لو أننا تحلينا بهذه الروح في مناقشة الخلافات العربية، وأن حكوماتنا احترمت الحقوق المتساوية لكل منها في تقديم مقترحات ومرشحين، وأن ما تتفق عليه هو ما يحقق التوافق بين الجميع ، ألم يكن حالنا سيصير أفضل؟ أو لم تكن نظرة العالم لنا ووزننا فيه يتغيران؟ أو لم يكن موقفنا يصير واحدا في مواجهة صفقة القرن وغيرها من الصفقات؟

***
العلامة الثانية التى استرعت انتباه العالم كله هى تكريس التقدم الهائل الذى أحرزته المرأة الأوروبية بفتح الباب أمامها لتولى أرفع المناصب فى مؤسسات الاتحاد، وهكذا اختار رؤساء الدول والحكومات الأوروبية سيدتين لتولى منصبى رئيس المفوضية الأوروبية ومحافظ البنك المركزى الأوروبى وهما أورسولا فون در لاين وزيرة الدفاع فى ألمانيا وكريستين لا جارد مدير صندوق النقد الدولى. الذى شجع على اختيارهما ليس فقط النفوذ الذى تتمتع به دولتاهما المحركتان لجهود الوحدة الأوروبية وهما كل من ألمانيا وفرنسا، ولكن لأنهما معروفتان بالميل للوصول إلى توافق بعد الاستماع لكافة وجهات النظر وقدرتهما على تجنيد أفضل الخبرات للعمل معهما وعدم الاستئثار بالرأى. لا يحتاج أى من المنصبين الرفيعين قادة يتصورون أنهم ملهمون وأنهم يعرفون كل شىء فى كل موضوع. التواضع والاستماع لذوى الخبرة هما شرطان ضروريان للنجاح على هذا المستوى.

***
العلامة الثالثة هى احترام التعددية ذات الأوجه المتعددة فى القارة الأوروبية وفى مؤسسات الاتحاد الأوروبى، فالبرلمان الأوروبى بعد انتخاباته الأخيرة أصبح يتسع لثمانى مجموعات من الأحزاب، ست منها تؤيد الوحدة الأوروبية، واثنتان تضمان المتشككين فى الاتحاد بل والرافضين له، المرشحون لتولى المناصب الرئيسية فى الاتحاد يعكسون هذا التنوع وذلك باستثناء المتشككين والرافضين. الرئيسة المنتخبة للمفوضية تنتمى إلى الأحزاب الديمقراطية المسيحية التى تلتقى فى حزب الشعب الأوروبى، والمرشح لتولى منصب محافظ البنك المركزى الأوروبى تتفق آراؤها ربما مع مجموعات الأحزاب الليبرالية والمحافظة والإصلاحية والداعية لتجديد الاتحاد الأوروبى، كما أن المرشح لتولى منصب مفوض الاتحاد للشئون الخارجية هو جوزيب بوريل هو اشتراكى إسبانى.

كما تتضمن هذه القرارات لمجلس الاتحاد الأوروبى حرصا على تمثيل جميع أقاليم أوروبا الفرعية وصغار الدول فيها، المرشح لرئاسة المجلس الأوروبى الذى ينظم اجتماعات رؤساء الحكومات والوزراء هو شارل ميشيل رئيس الوزراء البلجيكى. كما انتخب البرلمان الأوروبى دافيد ماريا ساسولى وهو إيطالى ينتمى إلى أحزاب يسار الوسط رئيسا له، وهكذا لا تحتكر دولة واحدة ولا مجموعة محددة من الدول جميع المناصب الرئيسية فى الاتحاد، ولا شك أن الدول الأخرى التى لم تنل حظها فى هذه القرارات الأخيرة للمجلس الأوروبى هى ممثلة على مستوى المفوضين، كما يمكن أن يأتى دورها فى المستقبل عند انتهاء فترة شغل هذه المناصب التى لا يحتكرها أحد.

الرسالة الأخرى التى تطمئننا نحن العرب أن الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة التى تعادى الأجانب وخصوصا العرب والمسلمين والتى نجحت فى الوصول إلى مقاعد البرلمان الأوروبى لم تجد حظها فى هذه الترشيحات، وبالتالى لن يكون لها دور كبير فى إدارة شئون الاتحاد فى الفترة المقبلة لأن نصيبها فى عضوية البرلمان لا يتجاوز عشرة بالمائة كما أن وجودها ليس مؤثرا حتى الآن داخل مجلس الاتحاد الذى يضم رؤساء الحكومات.

أليست هذه كلها رسائل يتعين علينا نحن كمواطنين عرب أن نتأمل فيها وأن نتعلم منها، حتى ولو كان الاتحاد الأوروبى يواجه مشاكل كبرى، وحتى لو كان وقت الأخذ بهذه الرسائل فى الوطن العربى لم يحن بعد؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved