التعلم من دروس الآخرين

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 7 يوليه 2021 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

عندما نفتش عن أفضل نظام سياسى ــ اقتصادى يؤمن بمبادئ ومكونات العدالة الاجتماعية، ويعمل من أجل تفعيلها فى الواقع الإنسانى والدفاع عن ذلك التفعيل، ويساهم فى تحسين فهم ومنطوق تلك المكونات والمبادئ وتحسين ظروف تطبيقها فى الواقع لتكون مقبولة من غالبية أفراد المجتمعات ورافعة لإنسانيتها... فمن الضرورى أن نعرف خلفية ولادة ومسيرة النظامين السياسيين والاقتصاديين اللذين هيمنا على المساحتين العالميتين عبر القرون الثلاثة الماضية. الأول ما توافق الناس على تسميته بالنظام الليبرالى الرأسمالى والثانى هو النظام الاشتراكى بتلاوينه الماركسية المختلفة.
لقد ولد كلا النظامين من رحم أفكار الأنوار الأوروبية التى قادت إلى مطالب العصرنة والحداثة. وضمت تلك الأفكار والمطالب ما يلى: ضرورة إجراء تحولات جذرية فى الاجتماع والسياسة، الأهمية الكبرى للحرية الفردية، الإيمان بأن التقدم ظاهرة حتمية، أن إحدى أهم وسائل مسيرة ذلك التقدم هو المساواة فى المواطنة وانتشار وترسيخ العقلانية بدلا من الخرافات والغيبيات (وهو ما سيهيئ لتنمية رأى عام مستنير)، ممارسة المواطن والمواطنة لحقوق سياسية متعددة تقود إلى نظام حكم ديمقراطى تمثيلى ووجود مجتمع مدنى نشط وفاعل فى الحياة العامة موازٍ بندية لقوة سلطات الدولة، وأخيرا، وكاستجابة لانتقال المجتمعات الأوروبية من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة إعطاء أهمية كبرى لأن تكون المجتمعات منتجة اقتصاديا، على أن يخضع ذلك الإنتاج الاقتصادى لشروط التبادل التجارى الحر المستقل إلى حدود كبيرة عن تدخلات الدولة.
هناك تفاصيل وتجاذبات كثيرة حول كل فكرة ومطلب لسنا معنيين هنا بها. المهم أنه بمرور الزمن أنها جميعا لم تتحقق فى الواقع كما أراد أصحابها لها: إما لأن جهات مستفيدة شوهتها وحرفتها واستعملتها لصالحها، أو لأن البشرية أعجز من أن تحمل مسئولية تلك الأفكار والمطالب التغييرية الهائلة وتدافع عنها، أو لأن واقع الحياة وتطوراتها المتلاحقة جعلت بعضا من تلك الأفكار والمطالب خارج الزمن وتحتاج إلى تعديلها أو استبدالها.
والمهم أيضا أن نعرف أن النظامين الرأسمالى والاشتراكى لم يعرفا كيف يستفيدان بصورة صحيحة وعادلة وشاملة مما كانت الأنوار والعصرنة قد طرحته.
الآن فى هذه اللحظة، هناك فى بلدان منشأ الأنوار والعصرنة شكوك كثيرة حول ما طرحا، وهناك مطالب متعاظمة بمراجعة الأيديولوجيتين الرأسمالية والاشتراكية، إذ كلتاهما تعيشان أزمة حقيقية، هما ومن يحملهما من أحزاب وحكومات وأفراد، خصوصا على ضوء ما رآه القرن السابق من جرائم حقوقية باسم الاشتراكية والفاشستية، وما يراه قرننا الحالى من ظلم وفقر وأزمات باسم النيوليبرالية، وخصوصا على ضوء الصعود الحالى للشعبوية وللوطنية العنصرية ولأنواع كثيرة من الصراعات الجندرية والدينية.
الحديث عن بديل ثالث يجمع أفضل ما فى الاثنين كثير ومتعدد، لكن ما سيقود إليه غير معروف ومبهم. لكن ما يحز فى النفس هو العودة إلى تأكيد البديهيات بعد ثلاثة قرون من ادعاء الأنوار والحداثة.
المهم أن فتح باب النقاش حول النظام السياسى ــ الاقتصادى الصالح لبلاد العرب والضامن لقيام دولة العدالة الاجتماعية لا يستطيع أن يتجاهل تلك الخلفية التى فصلنا بإيجاز، حتى ولو كانت لمجتمعاتنا العربية خصوصياتها وظروفها. لكن يجب أن تبقى التجارب العربية المختلفة، عبر سنوات ما بعد الاستقلال الوطنى، هى المحور الأساسى الذى يجب أن يقود ذلك النقاش وتلك المراجعة من أجل الوصول إلى نظام سياسى ــ اقتصادى عربى حديث عادل وخادم لمطالب العدالة الاجتماعية بحيث تتبناه الجماهير العربية وتناضل من أجله.
تلك المراجعة – يجب أن ترفض الشطط فى الفردية، حرية ومعيشة، وأن ترفض وجود فقر أو وجود غنى فاحش، أو هيمنة حرية الأسواق دون ضوابط تضعها دولة الرعاية الاجتماعية، أو غياب ديمقراطية شرعية تمثيلية، أو هيمنة الخرافات على العقلانية، أو استعمال الدين بانتهازية وبتبريرات منحازة للظلم وللسلاطين ولحكم الفئة فى الحياة السياسية، أو إضعاف وجود مجتمع مدنى نشط وفاعل ومستقل عن سلطة الدولة، أو امتلاك وسائل الإنتاج الاقتصادى وخيراته من قبل أقلية، أو تخل الدولة عن التزاماتها فى توفير الخدمات الاجتماعية من مثل التعليم والصحة والعمل والسكن، أو هيمنة قوى الحكم على وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعى استغلالهما دون تنظيم ذلك من خلال القوانين التشريعية والقضاء المستقل فقط.
نحن العرب، نحتاج إلى هكذا نظام، بهكذا مواصفات. أما التسميات فليست هى المشكلة.
مفكر عربى من البحرين

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved