رشوة مشروعة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 7 يوليه 2022 - 7:15 م بتوقيت القاهرة

ليست كل رشوة مرفوضة أو مدانة فهناك العديد من الرشى المشروعة التي ينطبق عليها حرفيًا ما قاله المفكر الإيطالي نيكولاي ميكياڤلي في نصائحه للأمير عن أن الغاية تبرر الوسيلة. كلنا جرّبنا أن نستميل أطفال العائلة بقطعة من الشيكولاتة اللذيذة أو بلعبة من الألعاب المثيرة حتى نقتنص من خدودهم قبلة وربما قبلات، ومهما خرج علينا مَن يقول إننا يجب ألا نعوّد الصغار على أن يحصلوا على مقابل لمشاعرنا التي نعبّر عنها تجاههم فإننا بصراحة شديدة لن نقتنع، كما أننا لن نكف أبدًا عن التطلّع لقبلة تحمل رائحتهم المحببة ممزوجة برائحة الشيبسي والمقرمشات وكثير من المحرّمات التي يتناولونها في السر. ونحن على استعداد تام لإيجاد تبريرات مقنعة لهذه الرشوة المشروعة كأن نقول مثلًا إننا نكافئهم على قبلاتهم كما نكافئهم على درجاتهم ونتائجهم، والفارق بين الاثنين طفيف فالتفوق يصنع المستقبل ومن قبلاتهم تولد الحياة.
• • •
كان صاحبنا قد احتار ولفّ السبع لفَات على كل الأطباء المتخصصين دون جدوى. مضت على زواجه أربع سنوات بالتمام والكمال من دون أن يكون له ابن من صلبه يحمل اسمه. بدأ أولًا بأطباء النساء والتوليد اتساقًا مع الفكرة الشائعة التي تجعل أي وجه من أوجه القصور في الدنيا مصدره امرأة، وفي كل المرات التي تردد فيها مع امرأته على هذا النوع من العيادات كانت تأتيه إجابة واحدة: لا توجد موانع ظاهرة. ومن بعد ذلك ثنّى بنفسه، ومع أنه من بيئة متواضعة إلا أنه لم يستنكف أن يستشير طبيبًا تلو الآخر في حالته وكان يحصل دومًا على الإجابة ذاتها: لا يوجد لديك ما يمنع. كان الأمر مرهقًا ماديًا ونفسيًا وجثمانيًا ومن كل الجوانب، لكن المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وهو مثله مثل كل الرجال يريد أن يكون له ابن يستند إليه حين يكبر، يسأل عنه، يعوده، يساعده، يرثه، وفي الأثناء يشغله ويجعل لحياته طَعمًا ومعنى، وعدا ذلك فالحياة رتيبة هادئة بلا مفاجآت أو حتى بلا مشاكل.. نعم يشتاق أن تكون له مشاكل يحكيها لزملائه في بوفيه الكلية كما يستمع يوميًا إلى مشاكل أولادهم إن مرضوا أو تعثروا أو تشاجروا. وبعد أن استنفد كل الوسائل الطبية الممكنة ولم يترك وراءه ورا كما كانت جدته تقول، استسلم لرغبة زوجته في تجربة كرامات المشايخ وأولياء الله الصالحين. كان عقله رافضًا المضي في هذه الطريق وهو الذي يتعامل مع مجتمع أكاديمي كل مَن فيه إما يحمل الدرجة الدكتوراه وإما ينتظر الحصول عليها، فهل يعقل والحال هكذا أن يستسلم للخزعبلات والأحجبة والتعاويذ ويرضخ بكامل إرادته لعمليات النصب والاحتيال؟ بلى استسلم وانساق ورضخ وعاد من كل هذا النوع من المشاوير بخفّي حنين، لكنه لم ييأس. شئ ما بداخله كان يهمس له أن هذه ليست هي النهاية، وأن بينه وبين ربه من العَمَار ما يجعله يثق أو قل يأمل في أنه سيستمتع في يوم من الأيام بهذا الإحساس الرائع الذي يسمونه الأبوة.. نعم سوف يستمتع.
• • •
بينما الاستعدادات تجري على قدم وساق في ملعب الجامعة انتظارًا لبدء مباراة كرة القدم بين أعضاء التدريس في كلية الطب، كان عم فلان كعادته حاضرًا في المشهد الكروي، كرة القدم هي اللعبة الوحيدة التي يتعلّق بها كأهلاوي متعصّب. ومع أنه في العادة إنسان حليم إلا أن من الأشياء القليلة جدًا التي لاشك في أنها تخرجه عن طوعه عندما يضيّع الأهلى فرصة تسديد هدف وساعتها فإنه يتحوّل إلى شخص آخر فلا يعود يدري ما إذا كان كل هذا الانفعال الذي يعبّر عنه بسبب هدف ضاع من الأهلي أم أنه نوع من التنفيس عن الغضب المكتوم في داخله. عمومًا فإن مباراة هذا اليوم ليس فيها أهلي وزمالك، وهو ما يجعله يكتفي بتشجيع اللعبة الحلوة، لكن لا لم يكن هذا هو مجرد دوره في المباراة فلقد احتاجوا إليه فجأة لتكملة عدد أحد الفريقين وكان جاهزًا تمامًا لأداء الدور، فهو لاعب قديم وله تاريخ وصولات وجولات، وبذلك أتيحت له الفرصة لينتقل من تشجيع اللعبة الحلوة إلى صناعة اللعبة الحلوة. انطلقت صفّارة الحَكَم وبدأَت المباراة وسط تشجيع نفر من الطلاب والعاملين. كان من الطبيعي أن تتعدد تخصصات الأطباء في فريق عم فلان كما في الفريق المقابل، فكان من اللاعبين متخصصون في الباطنة والقلب والصدر و.. و… النساء والتوليد وأيضًا الجلدية والتناسلية. مممممم ما هذا النهار السعيد الذي سمح له بأن يكون في وسط كوكبة من الأطباء المتخصصين في محنته الأسرية، ولعل البشارة تأتيه على أيدي واحد منهم وتتحقق المعجزة الإلهية. قل يارب. انتعش صاحبنا وتحمّس واشرأب وراح يمرر الكرة بالتساوي بين أطبائه المفضَلّين وتلك رشوة صغيرة ومشروعة، فمن ذا الذي يحرّم تمريرة حلوة للكرة تكون ثمنًا لاستشارة طبية وربما استشارات عديدة يحصل عليها صاحبنا لاحقًا من اللاعبين الأطباء؟ لا أحد يفعل ذلك، فالحلال حلال والحرام حرام. وفي هذا اليوم بالتحديد لعب صاحبنا كما لم يلعب أبدًا وتألّق كما لم يسبق له أن تألّق فقد كان لديه حافز كبير. وعندما سدّد طبيب النساء في فريقه هدفًا مفاجئًا من كرة مررها له صاحبنا بحرفنة الخبير ارتفعت المنفعة الحدّية لرشوته المشروعة ارتفاعًا ملحوظًا.
• • •
جاء اليسر بعد العسر ورُزِق عم فلان بالتوأم الجميل حسن وحسين فانقلبت حياته رأسًا على عقب وحظي بمشاكل العيال التي لا تنتهي والتي بحث عنها وتمناها من سنين طويلة. هكذا كنت تجده يتلّذذ بأن يسند ظهره إلى الكرسي المتهالك في بوفيه الكلية ويشرب كوبًا من الشاي الحبر مع سيجارة يخفيها من أمين عام الكلية، ويروح يحكي لمساعديه في البوفيه عن العيال وهموم العيال التي ضجّ بها بينما داخله يزغرد ويكذّبه. إنه لم يتمكّن أبدًا من أن يعرف ما إذا كانت هناك علاقة بين الاستشارات الطبية التي حصل عليها هو وزوجته نظير رشوته الصغيرة في مباراة كرة القدم إياها، وانفراج الغمّة على أيدي التوأم حسن وحسين، لكنه لم يستبعد ذلك فكل شئ وارد والله يسبب الأسباب وقد تكون المباراة هي السبب. عمومًا فإنه لم يشغل نفسه طويلًا بهذا الأمر، فالمهم بالنسبة له أنه في كل مرة كان يعود فيها للمنزل كان يجد عفريتين صغيرين في انتظاره ليلعب ثلاثتهم ما شاء لهم اللعب، وكان هذا يحقق له إشباعًا بلا مدى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved