الثورة الشعبية بين الهيمنة الأمريكية والذهب العربى

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 7 أغسطس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

غابت الشعوب العربية، بل هى غيبت أكثر مما يجوز عن ميدان العمل السياسى، وها هى تعود من كهوف القمع والصمت بالإكراه، ساعية إلى استعادة القرار فى بلادها، مستولدة حالة من «الفوضى الثورية» لغياب القيادة المؤهلة والتنظيمات السياسية ذات البرامج التى ترسم الطريق إلى المستقبل.

من الطبيعى أن تكون هذه العودة، التى جاءت مباغتة، مدوية، وأن تفاجئ نتائجها الباهرة جماهيرها التى احتشدت فى «الميدان» كانتفاضات غضب ورفض للنظام القائم، من دون أن تكون قد تصورت حتى فى أحلامها إسقاط حكم الطغيان.

كان المشهد العام يوحى وكأن الشعوب، أى الرعايا، بمجموعهم، قد خرجوا أو اخرجوا من ميدان العمل السياسى تماما واستكانوا إلى واقعهم المزرى، خصوصا وقد تم تدمير الأحزاب السياسية، وشطبت النقابات وهيئات العمل الشعبى، واخرج «الشعب» من دائرة التأثير بالاعتقال والرشوة بفتات من السلطة أو بهيمنة الأجهزة الأمنية على مجال العمل العام، أما من تصدى للمواجهة فقد غيبه الصمت والمنع والقمع وبات فى خانة «المفقودين».

على هذا فقد كانت العودة إلى السياسة أشبه بمسلسل من التفجيرات الشعبية، بغير تخطيط مسبق، وبغير قيادة محددة واضحة البرنامج وحاضرة لمواجهة أعباء «اليوم التالى». فلا أحزاب مؤهلة لتسلم السلطة، ولا جبهة تجمع المعارضات المختلفة فى شعاراتها وخططها، هذا من دون أن نتجاهل طول مدة الغياب عن مجالات العمل العام، بمختلف مؤسساته السياسية والنقابية. باختصار، كان مناخ اليأس السائد يصرف الناس عن الاهتمام بالشأن العام، وكان المواطن المصرى ــ على سبيل المثال ــ صادقا حين يرد على من يسأله رأيه فى الحالة السائدة بالقول: «لو سمحت، أنا ما ليش فى السياسة!».. أما فى أقطار عربية أخرى فكان من يسأل يعامل وكأنه «مخبر مدسوس» يستدرج الناس للحديث حتى يكشف حقيقة موقفهم من «النظام».

●●●

وحده تنظيم الإخوان المسلمين، العريق فى وجوده السياسى، خاض تجارب قاسية مع أنظمة عدة تطورت فى علاقتها به من التحالف المؤقت إلى العداء المطلق، لتعود إلى نفض الغبار عنه واستدعائه لتدلل بوجوده الرمزى على «ديمقراطيتها» وأخذها بمبدأ التعددية، ثم الإفادة منه فى مواجهة خصومها (وخصومه) العقائديين من اليساريين والقوميين والوطنيين عموما.  ولقد طوع هذا التنظيم نفسه لمواجهة أشكال العلاقات المختلفة، إذ امتنع عن التقدم بطلب الترخيص كحزب سياسى، مفضلا توصيف «الجماعة»، فلما اضطر إلى ذلك انشأ أحزابا خارج هيكليته التنظيمية... وهو كثيرا ما قدم نفسه وكأنه «جمعية» أو «جمعيات خيرية» أو «أهلية» بتسميات مختلفة. ثم انه حرص على أن تكون له قيادة معلنة، لكن القرار ظل دائما فى أيدى قيادة غير معلنة وغير معروفة.. فضلا عن أن تنظيمه الدولى كان يشكل قوة حماية لتنظيمه المحلى، أساسا داخل مصر، ومن ثم فى الأقطار الأخرى التى كان يستطيع التحرك فيها تحت شعارات العمل الاجتماعى، بينما قياداته السياسية فى المنافى حيث تستطيع تمتين شبكة علاقاتها الدولية التاريخية (بريطانيا، مثلا، ثم ألمانيا، وأخيرا الولايات المتحدة الأمريكية، ولو من الباب الخلفى..).

وتجارب هذا التنظيم حافلة بالصدام الدموى مع العديد من الأنظمة العربية لعل أخطرها وأعظمها كلفة ــ بعد مصر الخمسينيات والستينيات ــ سوريا فى السبعينيات والثمانينيات.

أما فى مصر فقد قدم الإخوان أنفسهم كواجهة شعبية موالية للرئيس أنور السادات حين احتاجها ليغطى صدامه مع القوى الوطنية والتقدمية فى لحظة خروجه من نظام عبدالناصر وعليه، واختياره ــ بعد حرب 1973 المجيدة ــ طريق الصلح مع العدو الإسرائيلى بشروطه، والخروج نهائيا من المواجهة نصرة لشعب فلسطين وحقوقه فى أرضه وقضيته العادلة.

ثم تكررت لعبة التحالف بشروط الحاكم مع نظام حسنى مبارك الذى استخدم الإخوان، كما السادات، وأعطاهم بعض المقاعد الخلفية ليظهر «إيمانه» بالديمقراطية (تماما كما فعل مع بعض اليساريين المتعبين بتاريخهم..).

وعندما تفجرت تونس بانتفاضة البوعزيزى كان الإخوان بقيادة «الأخ الأممى» راشد الغنوشى أكثر التنظيمات جهوزية للتقدم فى اتجاه السلطة متكئين على علاقاتهم مع بعض دول القرار كما على تحالفهم مع بعض القوى السياسية التى ناهضت حكم زين العابدين بن على من مواقعها البورقيبية أو من مواقعها النقابية (الاتحاد التونسى للشغل ذى الرصيد الشعبى)... وهكذا تمكن الإخوان من تقديم أنفسهم كقيادة لحركة التغيير، وإن اضطروا إلى اتخاذ بعض القوى ذات التاريخ شركاء فى السلطة. لكن الطموح إلى احتكار السلطة قد جر «النهضة» إلى مصادمات مع قوى وطنية وتقدمية ذات ثقل شعبى، مما سرع فى قيام تكتل عريض مناهض لهيمنتها على السلطة، مما يشير إلى أن حركة النهضة قد خسرت فرصتها فى حكم تونس.

أما فى مصر فقد قفز الإخوان إلى السلطة بمصادفة قدرية، ولعلهم اطمأنوا إلى أنهم وقد وصلوا أخيرا فلا بد من «التمكين» لحكمهم باستبعاد القوى والهيئات التى نزلت إلى الميدان قبلهم، والتى زلزلت نظام كبارك حتى إسقاطه... وهكذا لجأوا إلى مخادعة المجلس الأعلى للقوات المسلحة حتى تمكنوا فصرفوه بطريقة مهينة، بعد فوزهم بالرئاسة لاختلاف القوى السياسية الأخرى فى ما بينها، ولافتقار الشباب الذين كانوا عصب الميدان إلى قيادة والى برنامج محدد، فضلا عن افتقارهم إلى التجربة وما توفره من خبرات.

ذلك حديث فى الماضي؟!

ليس تماما، فها أن استعجال الإخوان احتكار السلطة وإلغاء كل القوى الأخرى التى كانت الأساس فى الميدان، والتصرف بنزعة ديكتاتورية طاغية، قد تسبب فى إسقاطهم بعد عام واحد على اقتناصهم تلك الفرصة القدرية التى هبطت عليهم من حيث لا يحتسبون.

●●●

لقد خسر الإخوان الشعب بسرعة قياسية، ولم يستطيعوا أن يكسبوا ثقة الجماهير العربية، كما لم يفد نفاقهم الغرب، والولايات المتحدة الأمريكية أساسا، فى تحسين صورتهم، بل تبدوا وكأنهم عصابة اختطفت السلطة غصبا وباشروا إعادة صياغة الدولة العريقة بمؤسساتها وبيروقراطيتها المتمكنة فى الواقع الاجتماعى بما يمكن لحكم مديد، برغم وضوح المشهد: أن تفردهم بالحكم مرفوض، والغلالة الدينية التى يتلطون خلفها لا تخدع المصريين المعروفين بإيمانهم العميق.

وهكذا عاد الشعب المصرى إلى السياسة وبزخم أسطورى، يمارس حقه فى اختيار حكمه ونظامه السياسى بما يلبى مطالبه الملحة فى حياة كريمة ومطامحه فى العودة إلى دور قيادى رائد فى وطنه العربى الكبير وفى مجاله الحيوى من حوله.

وبديهى أن هذه العودة إلى السياسة والى الإمساك بالقرار الوطنى ستواجه صعوبات جمة، سياسية واقتصادية واجتماعية، فى الداخل أساسا، ثم الخارج. ولقد هب الغرب يحاول استعادة مواقع التأثير، ومعه بعض الدول العربية التى رمت بذهبها أمام الحكم الجديد لان لها مصلحة فى وقف هذا «الاجتياح الإخوانى» الذى كان يتهدد العديد من الأنظمة السلفية، والذى قد تنتقل عدواه، ولو بصيغة مختلفة وبشعارات وخطط أكثر تقدما إلى بلاد عربية أخرى يحكمها السيف والذهب وتحاول ــ مثل الإخوان ــ توظيف الدين لخدمة طغيانها ولكن فى اتجاه مغاير.

وواضح أن الغرب الأمريكى يحاول «التوسط» لاستنقاذ دور «الراعى» لحركة التغيير مع الإلحاح على إشراك الإخوان ولو بنصيب محدود فى سلطة ما، بعد إسقاطهم بالضغط الجماهيرى المباشر معززا بانحياز الجيش إلى الشعب.

واضح أيضا أن دول الذهب الأسود تحاول استرهان الثورة، أو شراء «تطرفها»، مندفعة بعدائها لمن ينافسها فى رفع الشعار الإسلامى، مفترضة انه سيكون بوسع ذهبها مع احتياجات «النظام الجديد» فى مصر إلى الدعم، عربيا ودوليا، التأثير فى مسار الحكم الجديد فى مصر. من هنا يمكن القول أن الثورة المجيدة التى فجرها شعب مصر، وحماها جيشه، قد باشرت مواجهة صعوبات عملية قد تؤثر على مسارها وعلى جذريتها.

ولطالما ضاعت ثورات وانتفاضات شعبية مجيدة فى دهاليز السياسة الدولية (والعربية) لافتقادها القيادة المؤهلة وذات الخبرة، فضلا عن الصلابة العقائدية.

لكن الأمل فى وعى شباب مصر الذى اثبت باستمراره فى الشارع لأكثر من سنتين ونصف السنة، انه قادر على منع التورط فى الانحراف عن مطالبه، وانه سيبقى رقيبا على إعادة صياغة الحكم فى الجمهورية الجديدة بما يتناسب مع تضحياته.  ولعل من الحكمة أن يقبل هذا الشباب مبدأ ان يشارك الإخوان، بوصفهم قوة شعبية لها وزنها، فى أية صيغة لحكم جبهة وطنية عريضة، مع التنبه دائما لمخاطر نزعتهم القوية إلى احتكار السلطة.

لكن من الفطنة أيضا أن يتنبه الحكم المؤقت إلى مخاطر الهجوم النفطى المذهب، فليس بالعداء للإخوان وحده تبنى الدول، أما الذهب فطالما دمر الثورات خصوصا إذا ما كان فى خدمة الهيمنة الأمريكية.  

 

رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved