فى أعقاب كل أزمة اقتصادية عالمية أو إقليمية واسعة النطاق، يثور جدل عنيف مداره الطعن فى النظام الرأسمالى واقتصاد السوق، واستحضار النظريات التى تنبأت بالزوال الحتمى للنظام الاقتصادى القائم على الملكية الخاصة لرأس المال وحرية العرض والطلب ورفض تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى وفى مقدمتها طبعا النظرية الماركسية!. ولأن الأزمات الاقتصادية مهما اشتدت تبعاتها تظل تطورا محتملا للدورات الاقتصادية التى يتسم بها النظام الرأسمالى، فليس هناك حاجة إلى مناقشة المسلمات عند كل عارض، وليس ثمة نظام بديل للرأسمالية أثبت نجاحا أكبر فى التطبيق العملى الحديث حتى وإن اكتمل إطاره النظرى فى التوزيع على نحو جذاب. سقوط الاتحاد السوفيتى ومن ورائه السقوط الاقتصادى لدول شرق أوروبا، وبعض دول أمريكا اللاتينية، وتحولات الاقتصاد الصينى.. كلها دلائل عملية على عدم صمود تلك النظم البديلة.
بعض الاقتصاديين يدفعون تجاه تدخل الدولة بقوة لتوفير محفزات مالية كبيرة لامتصاص الأزمات الاقتصادية، والبعض الآخر يرى ضرورة عدم تدخل الحكومة على الإطلاق. بينما يرى الكثيرون ــ ومنهم صاحب المقال ــ أن إنقاذ الأسواق الحرة من الفشل هو الأمر الأكثر إلحاحا عند اشتداد الأزمات، وأن كفاءة السوق تقوم على توافر السيولة وكفاءة المؤسسات التى تعمل بصورة جيدة. ماكينات نظام السوق تعمل جيدا وبشكل تلقائى، لكنها تحتاج كل فترة إلى صيانة وتشحيم. تحتاج إلى سيولة (تشبه زيوت التشحيم)، وإلى رفع كفاءة المؤسسات (فيما يشبه أعمال الصيانة الأخرى).
***
يظل نظام السوق الأسلوب الأمثل وغير المركزى لتخصيص رءوس الأموال بين أصحاب المشروعات الذين يمتلكون أفكارا جيدة، ولاقتسام المخاطر وتيسير الإنفاق الاستهلاكى والاستثمارى.. ولكن لكى تعمل آليات السوق على الوجه الصحيح، يجب على الأطراف المختلفة أن تتفاعل بسهولة ويسر. هذا يعنى القدرة على دفع مقابل المشتريات عبر أنظمة دفع فاعلة، والحصول على السلع والخدمات والأصول المشتراة بأسلوب آمن ومضمون، وسهولة الوصول إلى الأسواق التى تنظمها القواعد وتحكمها القوانين واللوائح ولا تسمح بانهيارها، وتوافر المنافسة. كل ذلك حتمى لبقاء الأسواق وتطورها.
مثلما كان توجه الاقتصادى الانجليزى الشهير «جون ماينرد كينز» فى أعقاب أزمة الكساد الكبير عام 1929 يتمثل فى حث الحكومات على الإنفاق، بغرض خلق طلب فعال، وتحريك الأسواق ولو عن طريق خلق وظائف غير ضرورية. فقد كان تدخل الفيدرالى الأمريكى فى أعقاب أزمة الرهن العقارى فى عام 2008 بغرض ضخ السيولة فى الأسواق، وإعادة الثقة فى المؤسسات التى تعرضت لمخاطر الإفلاس.
التحفيز المالى fiscal stimulus الذى نجح إبان أزمة الكساد الكبير، والذى تأخر كثيرا فى أزمة الرهن العقارى الأخيرة لم يكن له تأثير حاسم مثلما كانت مبادرات الفيدرالى الأمريكى (بقيادة برنانكى) والتى منها توفير القروض والتيسيرات الكمية، ودعم صناديق الأسواق النقدية، وسوق الأوراق التجارية، بضخ رءوس الأموال وتوفير ضمانات الديون. التدخل المطلوب إذن هو كل ما يعيد للمؤسسات قدرتها على العمل بكفاءة، وكل ما يرد للأسواق الجافة الراكدة قدرا من السيولة والائتمان. قد يختلف شكل ومقدار التدخل باختلاف ظروف السوق وطبيعة الأزمة، لكن تظل الغاية النهائية ماثلة فى دعم كفاءة المؤسسات وزيادة سيولة الأسواق. كل ذلك طبعا مع الحرص على الحد من المخاطر الاخلاقية moral hazards والتى تنتج عن إنقاذ المؤسسات والأفراد الذين لا يستحقون الإنقاذ، بل ربما يستحقون العقاب لأنهم صنعوا الأزمة أو تسببوا فى تعاظم تبعاتها.
***
أكتب تلك السطور فى سياق أزمة اقتصادية تعيشها مصر منذ سنوات، وكلما اشتدت قبضتها على المواطنين، وأصبحت وصفة الإصلاح الاقتصادى شديدة الصعوبة، كلما ارتفعت الأصوات المنادية بتدخل الحكومة «لضبط» الأسعار، أو ربما لـ«فرض» تسعيرة «جبرية» على بعض السلع. كذلك يطالب البعض بـ«تدخل» بعض مؤسسات الدولة لإنتاج وبيع سلع وخدمات نكاية فى التجار المستغلين. البعض ينادى «بوقف» الاستيراد، و«منع» تصدير بعض المنتجات، و«مصادرة» بعض الانشطة، و«غلق» الصرافات!
الضبط، والفرض، والجبر، والتدخل، والوقف، والمنع، والمصادرة، والغلق.. كلها مفردات لا يألفها اقتصاد السوق، ولا يسيغها المستثمر الذى تتنازعه بدائل الاستثمار فى كل مكان، وبالتأكيد سوف يفضل الأسواق التى يتحرك فيها بحرية، ويحصل على ضمانات لحماية استثماراته وأرباحه.
النظام الاقتصادى الحالى لا يحتاج إلى الهدم وإعادة البناء، بل يحتاج إلى التجديد لمواكبة التغيرات. مؤسسات التمويل الدولية التى أنشئت لصيانة النظام الرأسمالى، باتت تضع أهداف الاستدامة ومنها محاربة الفقر وتحسين التوزيع، فى مقدمة أولوياتها. هى بذلك لم تنقلب على النظام الرأسمالى كما يتصور بعض السذج، لكنها تفعل مثل «كينز» و«برنانكى» تحاول إنقاذ النظام من مخاطر التكلس والانهيار. بقاء أى نظام واستدامته يتطلب مرونة تصمد به أمام مختلف التيارات.
المناداة بمحاربة الفقر والقضاء عليه ليست حكرا إذن على الفكر الماركسى البائد ولم تكن أبدا، وليست علامة مميزة للنظم الاشتراكية، بل هى أساس بقاء واستدامة المجتمعات الذى تستهدفه أعتى النظم الرأسمالية، عن طريق نظم ضريبية تصاعدية محكمة، وأدوات رقابية تعزز المنافسة وتحارب الاحتكار، وبشبكات ضمان اجتماعى كالتى تضعها الحكومة المصرية فى موازنتها العامة، وتفرد لها المساحة الأكبر فى البيان المالى.
***
فى اقتصاد السوق الحر تطلع كبار الاقتصاديين أمثال «آدم سميث» وهايك وفريدمان إلى وضع مثالى ذاتى التنظيم تنعدم فيه القيود، وتنخفض الضرائب والجمارك، وتسود النقود الصلبة. لكن الواقع تطلب نشأة حكومات تسيطر على مطابع البنكنوت، فظهرت الحاجة إلى استهداف التضخم، وتحقيق عجز الموازنة، واستخدام المحفزات المالية، والإنفاق الحكومى الضخم. استدعى الواقع العملى نشأة نظريات نيو ــ كلاسيكية و«كينزية» تتصالح مع تلك العيوب الخطيرة فى جسد السوق الحرة، وتبحث عن وسيلة لبقاء الفكر الاقتصادى الحر مرنا عند التطبيق، لأن جموده يعنى سهولة كسره. فإذا علمت كيف يتطور الفكر الاقتصادى، وكيف يعمل عقل الاقتصاديين، لأدركت سبب مقولة الرئيس الامريكى «هارى ترومان» أريد اقتصاديا بيد واحدة، فى سخرية واضحة من مقولة الاقتصاديين («من ناحية.. من ناحية أخرى» on the one hand.. on the other) فالاقتصادى ينظر إلى كل مشكلة من زاويتين على الأقل، وكثيرا ما يعترى الزاويتين التناقض. كذلك فمن المؤكد أن الاضطرابات المجتمعية، والتظاهرات الحادة، والتصويت العقابى فى الاستفتاءات بالدول التى تتبنى النظام الرأسمالى والتى ارتفعت فيها معدلات البطالة ونسب الفقر، كانت هى الأخرى سببا فى انتشار حديث لمفاهيم المسئولية المجتمعية، والاستثمار المسئول (مجتمعيا وبيئيا)، والتوسع فى تطبيق الحوكمة وهى أعمدة التنمية المستدامة التى تسعى إلى استقرار المجتمعات، عوضا عن تحقيق أعلى معدلات النمو وتراكم الثروات.
الحديث عن الاستدامة ومحاربة الفقر حاز منى أخيرا اهتماما كبيرا، بحكم انتخابى نائبا لرئيس لجنة الاستدامة بالاتحاد العالمى للبورصات (وهو للعلم معقل آخر من معاقل الرأسمالية!). ولأن بلادنا غنية بمحاولات التصنيف المستمرة، فقد سألنى البعض ممن يعلمون جيدا جذورى الوفدية، وعدم اتفاقى مبدئيا مع الفكر الاشتراكى وتطبيقاته، عن سبب التحول فى كتاباتى، فى إشارة إلى كون تلك الكتابات تصنف فكرا اشتراكيا! لم أرد واكتفيت بفتح البيان المالى للحكومة أمام أصحابنا، فقال قائلهم فى ذهول: يا خبر لقد أصبحت الحكومة كلها يسارية!! فكتمت الضحك ولم أعقب.