أى مآل لأزمة الديمقراطية فى تونس؟

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 7 أغسطس 2021 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

مرّ أسبوعان على اتخاذ الرئيس قيس سعيِّد التدابير التى تخولها له الفقرة الأولى من المادة 80 من الدستور التونسى فى الحالات الاستثنائية، أى تلك التى يهدد فيها خطرٌ داهمٌ كيانَ الوطن وأمنَ البلاد واستقلالَها، «يتعذر معه السير العادى لدواليب الدولة». بإيجاز هذه التدابير كانت تجميد مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن أعضائه، وإقالة رئيس الحكومة وتولى رئيس الجمهورية لوظائفه. بهذه التدابير عطّل رئيس الجمهورية السلطة التشريعية وجمع مجمل السلطة التنفيذية بين يديه، وهو أراد أن يضطلع كذلك بجانب من السلطة القضائية بتولى وظيفة النائب العام، غير أن مجلس القضاء الأعلى اعترض على ذلك مدافعا عن استقلال السلطة القضائية فتراجع الرئيس عما ابتغاه. الحالة الاستثنائية التى برر بها رئيس الجمهورية تدابيره هى المظاهرات المطالبة بإقالة الحكومة وحل البرلمان واشتباكاتها مع القوى الأمنية، وأسباب هذه المظاهرات وهى الشلل الذى أصاب العمل البرلمانى، والأزمة الاقتصادية الممتدة والطاحنة، وتفشى وباء كوفيد 19 وسوء إدارة مواجهته. بعد أسبوعين من إعلان الحالة الاستثنائية واتخاذ التدابير التى تبررها، ما هو المآل الممكن للأزمة التى تمر بها الديمقراطية فى تونس؟ للرد على هذا التساؤل نستعرض الخطوط العريضة لردود الفعل على التدابير الرئاسية فى تونس نفسها أولا، ثم فى محيطيها العربى والدولى، وعلى ضوء هذا الاستعراض نستشرف المآل الممكن للأزمة. غير أن الأزمة ليست فقط فى التدابير المتخذة وإنما هى كذلك فى الأسباب التى دعت لاتخاذها.
•••
فى تونس، هاجم رئيس حزب حركة النهضة الإسلاموى، صاحب أكبر كتلة برلمانية، وهو رئيس مجلس نواب الشعب، التدابير واعتبرها انقلابا وخروجا على الدستور، وحاول فى اليوم التالى لاتخاذها دخول مبنى البرلمان وفشل. غير أنه مما يلفت النظر أن رئيس حركة النهضة عاد يوم 4 أغسطس فأعلن أنه يجب تحويل إجراءات الرئيس التونسى إلى فرصة للإصلاح وإلى مرحلة من مراحل التحول الديمقراطى، بل ذهب مجلس شورى الحركة فى نفس اليوم إلى الدعوة إلى القيام «بنقد ذاتى معمق لسياساتها» «وبالمراجعات الضرورية وتجديد برامجها وإطاراتها»، وسط ما رشح عن انقسامات فى الحركة وتنديد بمواقف رئيسها. فى هذا الإعلان وفى هذه الدعوة تغير واضح فى لهجة حركة النهضة وفى تقويمها لنفسها ولسياساتها ومواقفها. السلفيون فى حزب الكرامة اعتبروا منذ البداية أن إجراءات الرئيس التونسى انقلاب على النظام السياسى ولم يغيروا موقفهم. الأحزاب العلمانية، وفى تونس لا يتحرج أحد من أن يعتبر نفسه علمانيا أو يعده الآخرون كذلك، الأحزاب العلمانية جمعتها تقديرات وإن تباينت بينها المواقف. باستثناء واحد، الأحزاب العلمانية حمّلت حركة النهضة المسئولية عن الانسداد السياسى فى تونس وبعضها هاجمها بشكل عنيف حتى من قبل التدابير الرئاسية نفسها. غير أن مواقف هذه الأحزاب من التدابير تباينت. الحزب الدستورى الحر، وهو المعادى للثورة التونسية أساسا، وزعيمته أشد خصوم حركة النهضة وأعلاهم صوتا، آثر الصمت. حزب حركة الشعب القومى العربى أيد صراحة تدابير الرئيس التونسى باعتبارها مؤقتة أملتها الظروف الاستثنائية التى تمر بها البلاد. حزب التيار الديمقراطى، وهو مع حزب حركة الشعب، مؤيدان رئيسيان للرئيس، اختلف مع تفسيره للمادة 80 من الدستور ورفض ما ترتب عليه من قرارات وتدابير واعتبرها خارجة على الدستور. حزب الاتحاد الشعبى الجمهورى رأى فى التدابير انقلابا وتجاوزا لأحكام الدستور. حزب قلب تونس، وهو الاستثناء العلمانى حيث تحالف مع حركة النهضة فى البرلمان، اعترض بشدة فى البداية على تدابير الرئيس التونسى ثم عاد فاتخذ موقفا متفهما لها. اليسار ممثلا فى حزب العمال كان رفضه قاطعا للتدابير التى عدّها انقلابا ومؤشرا على الرغبة فى العودة إلى نظام الحكم الفردى. واحد من زعمائه اعتبر أن الخصومة مع حركة النهضة لا تعنى تأييد الخروج على الدستور.
فى المجتمع المدنى، الاتحاد التونسى العام للشغل، التنظيم النقابى القوى، حمَّل منظومة الحكم برمتها المسئولية عن التدهور السياسى والاقتصادى فى البلاد، وأعلن أن تدابير رئيس الجمهورية «كانت استجابة لمطالب شعبية وحلاّ أخيرا لتعقّد الأزمة التى تمرّ بها». غير أن الاتحاد طالب الرئيس بألا تمتد الحالة الاستثنائية إلى ما بعد الشهر، وبالعودة إلى المسار الديمقراطى عند انقضائه كما شدد على تمسكه بمبادئ الثورة التونسية ومكتسباتها. دعا الاتحاد رئيس الجمهورية بعد ذلك إلى الإسراع بتعيين رئيس للحكومة وتشكيل حكومة مصغرة لمواجهة التحديات العاجلة مضيفا أنه لا يمكن الانتظار لشهر كامل لتحقيق ذلك. هاجم الاتحاد حركة النهضة لما اعتبره استقواءها بالخارج وتحريضها على تونس ولتهديد زعيمها باللجوء إلى العنف. موقف شبيه اتخذته سبع من منظمات المجتمع المدنى منها نقابة الصحفيين، واتحاد الشغل نفسه والمنظمات الثلاث التى حازت معه جائزة نوبل للسلام اعترافا بدورها التوفيقى فى بداية سنة 2014 والذى أدى إلى التفاهم بين العلمانيين والإسلامويين، ما مكّن من اعتماد الدستور الجديد للجمهورية التونسية. محصلة استعراض مواقف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين التونسيين هى أنهم، باستثناء حزب واحد هو الدستورى الحر، حزب الرئيس زين العابدين بن على الذى قامت الثورة عليه وخلعته، متمسكون بمبادئ الثورة ومكتسباتها. هؤلاء الفاعلون متمسكون كذلك بالعملية الديمقراطية، وإن اختلفوا فى تفهمهم للتدابير المؤقتة التى اعتمدها الرئيس التونسى. التباين الأهم كان فى المواقف من المسئولية عن الشلل والعجز اللذين حاقا بالنظام السياسى، فبينما اعتبرت الأحزاب العلمانية أن حركة النهضة مسئولة عنه، حمل الفاعلون الاجتماعيون، وعلى رأسهم الاتحاد التونسى العام للشغل، المسئولية للمنظومة السياسية برمتها. فى هذا الموقف انسجام مع الدور التوفيقى الذى لعبته منظمات المجتمع المدنى فى سنة 2014 والتى ربما تكون مدعوة إلى لعب شبيه له فى مستقبل قريب.
•••
فى المحيط العربى، كما يستشف من الصحافة، ومن وسائط الاتصال المرئية والمسموعة، ومن مواقع التواصل الاجتماعى، انقسمت ردود الفعل إلى اتجاهات ثلاثة. الاتجاه الأول بدا وكأنه يحتفل بتعليق العملية الديمقراطية فى تونس، بل وكأنما يتمنى أن تسقط هذه العملية إلى الأبد، وضمنيا، أن تعود تونس إلى ماضيها السلطوى. هذا هو الاتجاه السلطوى المعادى للديمقراطية فى العالم العربى، الذى يفوته من جديد أن السلطوية ولقرون أغرقت العالم العربى فى التخلف، ولم تنتشله فى عشرات السنين الأخيرة منه ولا هى حققت العدالة فى أنحائه. الاتجاه الثانى خشى من أن تكون تدابير الرئيس التونسى بداية العودة إلى التعسف والتسلط فحذر منها واتخذ منها موقفا أقل ما يقال عنه أنه كان متحفظا. الاتجاه الثالث رأى أن التدابير كانت ضرورية واعتبرها فرصة لإعادة النظر فى هياكل النظام السياسى وفى قواعد عمله، بغية الوصول إلى توزيع جديد للصلاحيات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، يمكِّن النظام من معالجة الشلل الذى أصابه، ومن الاضطلاع بوظائفه بفاعلية وكفاءة. أهمية هذه الاتجاهات سيحددها المآل الذى يختاره للخروج من الأزمة الفاعلون السياسيون والاجتماعيون التونسيون وليس العكس.
فى العالم الأكبر المحيط لم يصف الاتحاد الأوروبى ولا فرنسا ولا الولايات المتحدة ولا الاتحاد الإفريقى تدابير الرئيس التونسى بالانقلاب وإن أسفوا على تجميد العملية الديمقراطية ودعوا الرئيس التونسى إلى سرعة استئنافها. فرنسا ذهبت إلى دعوته إلى تعيين رئيس للحكومة يضع السياسات الضرورية ويطبقها من أجل معالجة التدهور الاقتصادى والصحى. تركيا ذات العلاقة الوثيقة بحركة النهضة هاجمت التدابير ثم عادت فاتخذت موقفا أكثر اعتدالا. لم يصدر عن روسيا أو الصين أى تعليق على تدابير الرئيس التونسى. من حيث المبدأ، النظام الديمقراطى هام للاتحاد الأوروبى وللولايات المتحدة وللتحالف الغربى عموما لأنه من أدواتهم فى مقاومتهم لمنافسة الصين وروسيا لهم بنظاميهما السياسيين المختلفين. من الأهمية بمكان له، من حيث المبدأ، أن يثبت التحالف الغربى أن نموذج النظام السياسى الذى يعتنقه كفؤ فى تحقيق التقدم والحرية والعدالة لدول العالم وشعوبها، وأنه على أى حال أكثر كفاءة فى ذلك من النظامين الصينى والروسى. المشكلة هنا تكمن فى التناقض بين المبادئ والفعل الذى سجلته خبيرة تونسية: عند الفعل أولوية التحالف الغربى هى مكافحة الارهاب والهجرة، وليس التطور الديمقراطى.
•••
إذا جمعت المواقف المستعرضة أعلاه على كل من المستوى التونسى والعربى والدولى، فإنك فى أغلب الظن ستخلص إلى أن مآل أزمة الديمقراطية فى تونس سيحدده أولا وأخيرا الفاعلون السياسيون والاجتماعيون التونسيون. الأغلبية الساحقة من هؤلاء الفاعلين متمسكة بالثورة التونسية ونتائجها، وترفض العودة إلى النظام السلطوى التسلطى. أغلبية أيضا تؤيد التدابير الاستثنائية للرئيس التونسى ولكنها تعتبرها مؤقتة لا يجب أن تتعدى الشهر المحدد لها. إلى هذه الأغلبية ينضم أولئك الذين رفضوا التدابير أصلا. الأغلبية الساحقة من الفاعلين متمسكة إذن بالرجوع سريعا إلى العملية الديمقراطية. وبعضهم صار يعتبر التدابير فرصة لإصلاح النظام السياسى.
أمام الرئيس التونسى خياران: إما أن ينزل على ما تريده الأغلبية الساحقة من الفاعلين التونسيين وإما أن يمدَ العمل بالتدابير الاستثنائية وأن يتمادى فيها. ولكن هل يستطيع الرئيس التونسى الأخذ بالخيار الثانى؟ ليس للرئيس حزب أو حركة سياسية يستند إليها لمقاومة مطالب الفاعلين الأقوياء فى المجتمعين السياسى والمدنى التونسيين. أغلب هؤلاء الفاعلين أيدوا أو تفهموا استخدامه للسلطة التى تمنحها إياه المادة 80 وسكتوا عما تفرضه نفس الفقرة الأولى من المادة، وتجاهلها هو، كوجوب استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب قبل اتخاذ التدابير، وعما تنص عليه الفقرة الثانية منها وهو انعقاد مجلس نواب الشعب انعقادا دائما أثناء فترة تطبيق التدابير. إن تجاهل الرئيس دعوة الأغلبية الساحقة من الفاعلين إلى العودة السريعة إلى العملية الديمقراطية، فهم وبالضرورة سيذّكرون بالفقرة الثالثة فى المادة 80 التى تنص على أنه «بعد مضى 30 يومًا على سريان هذه التّدابير يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو 30 من أعضائه البتُّ فى استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه». فى غياب مجلس نواب الشعب وفى عدم وجود المحكمة الدستورية، كيف يتسنى للرئيس تمديد الحالة الاستثنائية؟ قد يستخف البعض بالنص الدستورى ولكن المسألة ليست فى النص على أهميته، ولكن فى عدم وجود قوة سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك تسنده وتمكنه من تحدى الأغلبية الساحقة من الفاعلين التونسيين.
أغلب الظن أن الرئيس سينزل على رغبة هؤلاء الفاعلين ولن يمدد الحالة الاستثنائية. ولكن سيكون عليه، وعلى الفاعلين السياسيين والاجتماعيين معه، أن يجدوا حلولا يعيدون بها توزيع الصلاحيات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وفى داخل السلطة التنفيذية، لكى يكفلوا كفاءة تشغيل النظام السياسى التونسى المنبثق عن ثورة 2010ــ2011. الفاعلون الخارجيون فى العالم العربى وفى التحالف الغربى سيكون عليهم أن يتكيفوا مع اختيارات الشعب التونسى، ممثلا فى مؤسساته الوسيطة، هؤلاء بحل التناقض بين مبادئهم وأفعالهم، وأولئك باحترام الشرعية التونسية ففى احترامها صيانة لشرعية مواقفهم واختياراتهم هم أنفسهم.
رب ضارة نافعة. لعل مآل الأزمة التونسية يكون دعما للديمقراطية وترسيخا لها.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved