دفتر توثيق نظامنا الصحى العام

علاء غنام
علاء غنام

آخر تحديث: الأحد 7 أغسطس 2022 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

ترجع محاولات عمل تغطية صحية شاملة أو تأمين صحى بالمعنى الحديث نسبيا إلى منتصف الستينيات، عندما تم تأسيس التأمين الصحى كجزء من تطبيق الخطة الخمسية. كان ذلك عام 1964 عندما أُسس فى يوليو أول نظام للتأمين الصحى الاجتماعى الذى ارتبط بقانون التأمين الاجتماعى وقتها وركز على الطبقة العاملة التى تنامى حجمها بسبب خطة الدولة الطموح وقتها فى التصنيع المحلى وإحلاله محل الواردات.
طُبق هذا النظام أولا فى محافظة الإسكندرية ثم فى محافظة القاهرة، وظل يتوسع ببطء نتيجة لأسباب مالية وإدارية وهيكلية عديدة، خاصة مع تصميمه ليقوم بكل الوظائف من تمويل وإدارة وتقديم للخدمات.
ولكن، توقف تطبيق هذا النظام لأسباب عدة لعل أهمها هزيمة يونيو 1967، وبالتالى تعطلت أحد المجهودات التى بذلت لتحقيق العدالة الاجتماعية بوجه عام، وتقديم الرعاية الصحية والتعليم بوجه خاص.
ومع تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فى البلاد، إلى جانب وجود خلل هيكلى ومؤسسى فى نشأة وتطور نظام التأمين الصحى، ظل تطبيق النظام محدودا حتى منتصف الثمانينيات؛ حيث لم يتجاوز أعداد المؤمن عليهم 4 ملايين مواطن من إجمالى عدد السكان وقتها.

وفى نفس السياق، صدر فى عام 1975 قانونان للتأمين الصحى، وهو ما يثير الدهشة عندما نحاول قراءة تاريخ تطور تشريعات التأمين الصحى، فقانون 79 لسنة 1975 هو قانون توسع للتأمين الاجتماعى وأيضا للتأمين ضد المرض بنسب اشتراك 1% إلى 3% من العامل وصاحب العمل. وأيضا فى نفس العام صدر قانون آخر للتوسع برقم 32 لسنة 1975 بنسب اشتراك مختلفة، نصف فى المائة وواحد ونصف فى المائة من العامل المشترك وصاحب العمل لتخفيف العبء على موازنة الحكومة باعتبارها صاحب العمل الأساسى فى هذا النظام المحدود الذى يأتى أغلب مشتركيه من موظفى الدولة وعمالها.
والغريب فى الأمر هو صدور قانونين للتأمين لنفس الغرض، ولكن بشروط مالية مختلفة، مما يعكس مدى عدم وضوح الرؤية وعدم وجود خطة محددة لتحقيق الحماية الصحية. ويعكس أيضا التخبط فى ذلك الوقت بين التوجه القديم فى التنمية والتوجه الجديد الذى كان يظهر على استحياء وقتها، وهو توجه الانفتاح الاقتصادى والاقتصاد الخاص الحر التابع.

نظام التأمين الصحى على طلاب المدارس والأطفال
تعتبر محاولة منتصف الستينيات هى المحاولة الأكثر جدية وتماسكا لعمل تأمين صحى شامل بالمعنى الحديث، رغم عدم اكتمال التجربة لأسباب عديدة. ومع عدم اكتمال تلك التجربة، ظل النظام الصحى بطيئا فى تطوره واتساعه، وهو الذى يمكن إرجاعه إلى أسباب هيكلية واقتصادية وسياسية عديدة تحتاج لبحوث معمقة.
ولكن، حدثت قفزة غير متوقعة للنظام الصحى مع بداية التسعينيات من القرن الماضى، يعتبرها العديد من الخبراء بمثابة قصة نجاح.
مع بداية التسعينيات كانت مؤشرات التنمية البشرية الخاصة بنمو الأطفال فى مصر وصحتهم مزعجة، لا سيما من ناحية الطول والوزن والنحول وسوء التغذية عموما، وارتفاع معدلات وفيات حديثى الولادة والرضع والأطفال، خصوصا ما بين الشرائح الأفقر فى المجتمع. تولد عن هذا الحال رغبة سياسية على مستوى عال فى ذلك الوقت، نتج عنها أخذ قرار إنشاء قانون جديد للتأمين الصحى وتطبيقه على طلاب المدارس من أول المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية العامة.
وبالطبع صدر القانون وعبأت الدولة جهودها جميع للبدء فى تطبيق التأمين الصحى، وتحركت عجلة التطبيق بسرعة هائلة، واتسم نظام التمويل بالعبقرية، حيث تحملت الدولة النسبة الأكبر من مسئولية الحماية الصحية للأطفال، من خلال دفع مبلغ 12 جنيها لكل طالب سنويا من خزانتها العامة وتحصل 4 جنيهات فقط من كل ولى أمر، بالإضافة إلى حصيلة مجتمعية للتمويل بقيمة 10 قروش وقتها من كل عبوة تبغ.
وهذا ضَمَن وجود نظام تمويل عبقرى وعادل أنعش صندوق التأمين الصحى بمبلغ محترم، وافتتحت عيادات مدرسية وتم توفير أطباء للمدارس بتعاقدات مجزية.
وربما كان نظام التمويل الملهم للتأمين على طلبة المدارس، شبيها أو قريب الشبه من نموذج التمويل فى نظام التأمين الصحى الشامل الذى ظهر بعده بعقدين من الزمن.
ومن ثمَ اتسع نطاق التغطية التأمينية الصحية لما يقرب من 14 مليون طالب، وذلك بإرادة سياسية قوية، وبموازنة عبقرية عادلة تحملت فيها الدولة المسئولية الأساسية.
• • •
ولكن وبعد مرور كل هذه السنوات نتساءل هل حدث تقييم علمى كامل لهذا النظام وتوابعه؟ خاصة بعد صدور قرار حكومى إضافى فى أكتوبر سنة 1997 بتوسيع النظام أيضا ليشمل الأطفال حديثى الولادة حتى سن دخولهم المدرسة.
والمدهش فى هذه الحكاية أن نظام التأمين الصحى تم فى اتجاه معاكس للمسار الاقتصادى العام للدولة فى ذلك الوقت، والذى كان يتجه نحو تبنى نموذج الاقتصاد الحر، وهو ما يطرح التساؤل حول أسباب نجاح هذا النظام؟ وما وضعه الآن؟ وهل يعد ذلك التمهيد الطبيعى لمسار الإصلاح الصحى الشامل بعد ذلك؟
فى الختام، فإن الدراسة المتعمقة للتجارب السابقة غير المكتملة لتطبيق تأمين صحى فى مصر قد تساعد فى تجنب أخطاء قد تحدث خلال تطبيق نظام التأمين الصحى الجديد. وهذه الدراسة ضرورية ولا غنى عنها ويجب أن تقوم بها أقسام الصحة العامة فى البلد. فعلى سبيل المثال، تجربة تطبيق التأمين الصحى على طلاب المدارس مثلا لم يتم دراستها دراسة علمية دقيقة بعد. وعلى مستوى آخر من الضرورى مشاركة الخبراء الذين يمتلكون آراء وتقييمات للتجارب السابقة، ومعرفة بالأخطاء التى تمت مسبقا فى عمليات تطبيق أنظمة التأمين الصحى، وذلك كى نستطيع الخروج بدروس تصب فى صالح نظام التأمين الصحى الشامل.

خبير سياسات صحية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved