التحدى الأكبر أمام أى رئيس جديد لمصر

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الجمعة 7 سبتمبر 2012 - 8:45 ص بتوقيت القاهرة

فى بداية دراستى لموضوع التنمية الاقتصادية، وجدت من الكتاب من يعتبر من خصائص الدول المتخلفة (كما كانت تسمى فى ذلك الوقت) ظاهرة «الازدواجية الاجتماعية»، أى انقسام المجتمع إلى قسمين يفصل بينهما حاجز حديدى لا يسهل عبوره، بل ولا يسهل على أحد المنتمين إلى أحد القسمين التفاهم مع المنتمين للقسم الآخر. الحاجز الفاصل بينهما ليس إذن مجرد حاجز مادى (حيث يقطن أحد الفريقين فى أماكن مختلفة عن التى يعيش فيها الآخر)، بل هو أيضا حاجز أو فوارق فى التعليم، ولغة الكلام، ونمط السلوك، ومن ثم صعوبة التفاهم بينهما.

 

كان مما يضرب من أمثلة على هذا الانقسام، أن المنتمى إلى أحد الفريقين، والذى قد يسكن فى العاصمة، وفى حى فاخر منها، يجد أن من الأسهل عليه الاتصال بصديق له فى باريس أو لندن من أن يتصل بشخص ينتمى إلى الفريق الآخر، يعيش فى قرية صغيرة فى الدلتا أو الصعيد. الخطابات قد تصل أو لا تصل، والاتصال التليفونى بالغ الصعوبة أو مستحيل، والسفر شاق وطويل...الخ.

 

ظلت فكرة «الازدواجية» كخصيصة من خصائص بلادنا الفقيرة، عالقة بذهنى، رغم أن كتابات التنمية التى قرأتها فى الأعوام التالية، كانت فى العادة تهمل الكلام عنها. لم أكتشف سبب اختفاء هذه الفكرة من الكتابات الحديثة فى التنمية إلا مؤخرا، بعد أن اكتشفت مدى سيطرة بعض الأفكار الجاهزة على كتب التنمية كما تسيطر على غيرها، ومدى التحيز لتوجهات معينة تتعلق بتحديد الفرص من التنمية أصلا، أو بمنهج البحث الاقتصادى بوجه عام. فمثلا، اشتد الميل إلى اعتبار التعبير الكمى عن الظواهر الاقتصادية والاجتماعية التعبير «العلمى» الوحيد، ومن ثم تسقط كثير من الظواهر الاقتصادية والاجتماعية من الحساب رغم أهميتها القصوى، لمجرد صعوبة قياسها. نعم، قد تكون الازدواجية ظاهرة خطيرة، وذات آثار نفسية واجتماعية مدمرة، ولكن كيف نقيس الازدواجية؟ كيف نقول انها فى مصر أكثر أو أقل خطورة منها فى الهند أو الفلبين مثلا؟ هذا الموقف (السخيف جدا فى نظرى)، كان مما ساعد على إهمال الاقتصاديين للحديث عن هذه الظاهرة وخطورتها، ولكنه لم يكن السبب الوحيد، كان هناك أيضا الميل المتزايد لإعطاء الأولوية لرفع معدل نمو الناتج القومى، بالمقارنة بأى هدف آخر. فمعدل الناتج القومى قد يزيد أو ينقص بصرف النظر عما يحدث للازدواجية الاجتماعية وانقسام المجتمع على نفسه.

 

•••

 

المهم أن كل هذا لم يمنع ظاهرة الازدواجية من التفاقم فى معظم البلاد الفقيرة (سواء سميت بلادا متخلفة أو نامية أو بأى اسم آخر)، وكانت مصر بالطبع من بين هذه البلاد. فها نحن ننظر إلى المجتمع المصرى بعد مرور ستين عاما على قيام ثورة 1952، التى كان من أهدافها التقريب بين طبقات وشرائح المجتمع، فنراه منقسما على نفسه انقساما خطيرا، فلا يكاد قسم كبير منه يستطيع التفاهم مع القسم الآخر أو التعاطف معه. وعندما قامت ثورة 25 يناير 2011، كشف الغطاء عن حجم هذه الازدواجية والمدى الخطير لانتشارها فى أجزاء الجسم المصرى. مظاهر هذه الازدواجية كثيرة، أوضحها التفاوت الكبير فى الثروة والدخل، ولكن هناك أيضا التباين الصارخ فى أنماط السلوك. قارن بين أنواع السكن (القصور ذات حمامات السباحة والحراسة المشددة فى مقابل العشوائيات)، وبين أنواع المدارس والجامعات (مدارس وجامعات فاخرة المبانى والكتب والمدرسين، وأخرى تعتمد على الدروس الخصوصية أكثر مما تعتمد على التدريس داخل المدارس) أو بين أنواع التسلية والترفيه، أو بين الوسائل المختلفة للمواصلات...الخ.

 

ولكن الذى لا يقل خطورة عن كل هذا هو الازدواجية فى طريقة التفكير فالمصريون الآن منقسمون على أنفسهم إلى قسمين كبيرين فى النظر إلى مظاهر الحضارة الغربية، وإلى مركز المرأة، وإلى الفن والسياحة...الخ. قد يقال إن الاختلاف فى هذا كله يرجع إلى شىء واحد وهو الاختلاف فى النظرة إلى مركز الدين فى المجتمع، أو فى تفسير الدين، ولكنى أعتقد أن هذا الاختلاف فى النظر إلى الدين ليس شيئا مستقلا نتجت عنه كل هذه الاختلافات الأخرى، بل إن كل هذه الاختلافات (بما فيها الاختلاف حول مركز الدين) نابعة عن انقسام اجتماعى، تفاقم بشدة خلال الأربعين عاما الماضية نتيجة لما طرأ على مصر من تغيرات فى النظام الاقتصادى، وفى العلاقات الاجتماعية، وفى نوع الاتصال بالغرب.

 

أيا كان رأينا فى تفسير هذا الانقسام، فأعتقد أن معظمنا مستعدون للاعتراف بوجود هذه الازدواجية الفظيعة فى حياتنا، وبأنها من أسوأ ما تتسم به حياتنا الاجتماعية والسياسية اليوم.

 

•••

 

لم تكن ثورة 25 نياير 2011 هى السبب بالطبع فيما نعانيه من ازدواجية، بل قامت هذه الثورة فقط بوظيفة الكشف عن وجود هذا الداء ومدى انتشاره فى جسم المجتمع المصرى، وكأن حالنا كحال المريض الذى ظل مدة طويلة مستلقيا بظهره على فراشه، ويتوهم أن جسمه سليم، فإذا به عندما سمع خبرا سارا، وحاول القيام للتعبير عن فرحه، اكتشف أنه غير قادر على الوقوف على قدميه، ناهيك عن السير بضع خطوات إلى الأمام، لقد اكتشفنا بعد قيام ثورة 25 يناير أن ما ظنناه إجماعا أو ما يشبه الإجماع على بعض الأهداف الواضحة، كالحرية والخبز والعدالة الاجتماعية، يخفى انقساما رهيبا حول كل شىء تقريبا. إننا لا نستطيع أن نتفق على دستور جديد (بل ولا حتى على أسماء من يمكن أن يقوموا بكتابة دستور جديد)، ولا ماذا كان يجب أن نقبل أو نرفض قرضا من صندوق النقد الدولى، ولا على ما إذا كان الأقباط مصريين ناقصى الأهلية أم كاملى الأهلية، أو ما إذا كان يجوز أن تذهب الطالبة إلى الجامعة وهى منتقبة أو لا يجوز، ولا ما إذا كان نجيب محفوظ كافرا أو غير كافر، بل ولا حتى على صيغة القسم الذى يجب أن يتلوه أى عضو جديد ينضم إلى مجلس الشعب...الخ.

 

هذه مجرد عينة صغيرة من أمثلة لا نهاية لها لما نحن فيه من انقسام فى الرأى. ولا يجوز القول بأن مثل هذا الانقسام من طبيعة الأمور، وحله يكون بالديمقراطية وأخذ الأصوات. فالديمقراطية ليست طريقة لحل مشكلة تكاد تتعلق بالوجود نفسه، نكون أو لا نكون. والمجتمع الذى لم يصل إلى ما يشبه الإجماع حول أمور حياته الأساسية، مجتمع بائس ومريض ولابد من عمل شىء حاسم لإنقاذ مما هو فيه.

 

هذا الانقسام الرهيب أو الازدواجية أسوأ فى نظرى من الفقر نفسه. إنها سبب ذلك الشعور المضنى بالظلم، وسبب ما يشعر به كثيرون من المصريين من ضغينة إزاء المجتمع ككل، وفقد الكثيرين لأى أمل فى إصلاحه، ورغبة الكثيرين فى الهجرة منه. ليس السبب هو الفقر، بل الازدواجية، فتحمل الفقر أسهل من تحمل هذه الازدواجية. ولكن الازدواجية هى أيضا السبب فى تبديد الكثير من الموارد (انظر مثلا ما ينفق على المياه اللازمة لدى ملاعب الجولف، أو على بناء قصور على الساحل الشمالى أو ساحل البحر الأحمر، أكثرها مغلق طوال العام، أو ما ينفق لحماية الجزء المحظوظ من اعتداء الجزء غير المحظوظ من المجتمع...الخ). وهى السبب فى استقواء حفنة صغيرة من المصريين بقوى أجنبية، إذ ينظرون بخوف إلى ما قد يتحول إليه فجأة غضب القسم المحروم من المصريين. وهى السبب فيما يشعر به كثير من المصريين من اغتراب، وهم يعيشون داخل وطنهم، إما بسبب اختلاف نمط حياتهم عن نمط حياة كثيرين ممن يلتقون بهم يوميا، أو عما يرونه على شاشة التليفزيون، أو بسبب اختلاف دينهم فى مجتمع يبتعد أكثر فأكثر عن التسامح مع المولودين بدين مختلف. هذه الازدواجية مسئولة أيضا عن كثير من تشوهات حياتنا الثقافية. إن بعض من ينتسبون إلى «النخبة» الثنائية لا يكفون عن خداع جمهور واسع من أنصاف المتعلمين، الذين لا يستطيعون أن يكتشفوا بسهولة سبل الخداع التى يتبعها هؤلاء الكثيرو الكلام من أنصاف المثقفين. هؤلاء الذين يرتدون رداء «النخبة الثقافية»، يستميتون بالطبع فى محاولة الانضمام لذلك القسم المحظوظ من المجتمع، حتى يستمتعوا بما يتمتع هؤلاء به، ولو كان ثمن ذلك خيانتهم للقسم البائس من المجتمع، مع التظاهر بأنهم يعبرون عن مصلحته، بينما ولاؤهم الحقيقى هو نفس ولاء أصحاب السلطة السياسية.

 

المآسى الناتجة عن الازدواجية الاجتماعية لا حصر لها، فلا عجب أن نعتبر التحدى الأكبر الذى يواجهه أى رئيس جديد لمصر (أو يجب أن يواجهه) هو التصدى لهذه الازدواجية. وسوف يدهش القارئ أن يعرف أن من الممكن التصدى لمعظم مشكلاتنا الكبرى من خلال التصدى للازدواجية. إن علاقة الازدواجية بمشكلة توزيع الدخل علاقة واضحة، ولكن القضاء على الازدواجية يمكن أو يجب أن يكون أيضا مدخلنا إلى علاج مشكلة البطالة (ففى العمالة والبطالة أيضا ازدواجية بغيضة) وإلى اختيار النمط الأمثل لتوزيع الاستثمارات (جغرافيا وبين القطاعات الاقتصادية)، وإلى علاج مشكلات التعليم والإعلام، وإلى القضاء على الفساد فى الإدارة الحكومية (إذ لا يمكن أن نتعقب فساد الموظف الصغير ونترك فساد الطبقة المحظوظة والمسئولة عن فساد والموظف الصغير...الخ). بل إن التصدى للازدواجية يصلح أيضا مدخلا لتحديد موقفنا من قروض صندوق النقد والبنك الدولى. فهذه القروض قد تساعد على التخفيف من الازدواجية، ولكنها هى والشروط المقترنة بها قد تزيد ظاهرة الازدواجية تفاقما. وليس من الصعب التمييز بين هذا النوع من القروض وذاك.

 

هذا المدخل إلى الإصلاح أفضل بكثير من الاعتماد على ذلك المؤشر السقيم: تنمية الناتج القومى ومتوسط الدخل. فها قد تبين لنا الآن أن هؤلاء الذين أكدوا على مشكلة الازدواجية فى البلاد الفقيرة منذ نحو ستين عاما، كانوا أقرب إلى الصواب من هؤلاء الذين لم يكفوا طوال هذه الفترة، عن تحقيرنا مرة، بتسميتنا بلادا متخلفة، وعن تملقنا مرة، بتسميتنا بلادا نامية، بينما يقدمون لنا نصائح بالتركيز على رفع معدل نمو الناتج القومى، فلا نزداد نتيجة لذلك إلا بؤسا.

 

 

 

 

 

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved