محاولة لفهم عبدالناصر

محمد عصمت
محمد عصمت

آخر تحديث: الإثنين 7 سبتمبر 2020 - 6:50 م بتوقيت القاهرة

أتابع بشغف وتقدير كبيرين مقالات كاتبنا الكبير محمد عبدالشفيع عيسى فى «الشروق»، التى يكشف فيها بثقافة موسوعية واسعة ومنهجية فكرية رصينة أصول وتحولات ومآلات الكثير من القضايا التى تشغلنا فى العلاقات الدولية المعاصرة وكيف تشتبك مع أوضاعنا الداخلية وتؤثر على قراراتنا السياسية والاقتصادية.
لكننى اختلفت معه كثيرا فى مقاله الأخير الذى كتبه فى 24 أغسطس الماضى بعنوان «عتاب مستحق من أجل جمال عبدالناصر» ردا على ما ذكرته فى مقالى «عصر الهيمنة الإسرائيلية» بأن أداء نظام الرئيس الراحل الخاطئ فى مواجهة الخطر الإسرائيلى وتهديداته بإزالة إسرائيل من الوجود وتحرير أرض فلسطين كلها، كانت مجرد طنطنة فارغة انتهت بهزيمة 67، لأنه لم يكن مستعدا عسكريا لأى حرب مع إسرائيل، وأن ذلك فتح الباب أمام تغلغل إسرائيل فى عالمنا العربى، وفتح أمامها الباب للسعى للهيمنة عليه خاصة مع قبول العديد من الدول العربية تطبيع العلاقات الدبلوماسية معها بعد سنوات طويلة من العلاقات السرية المزدهرة.
فى حدود المساحة المتاحة لهذا المقال لن أستطيع الرد على كل ما ذكره كاتبنا الكبير بالتفصيل، وسأضطر للاكتفاء بفكرة مركزية واحدة تنطلق من قناعة راسخة عندى بأن الحكم على نظام عبدالناصربكل سياساته وتوجهاته لن يكون صحيحا إلا بتحديد طبيعة القوى الطبقية والاجتماعية التى يمثلها هذا النظام وبالآليات والسياسات التى يعبر من خلالها عن مصالحها، وأن أى نظام مهما تشدق بعبارات ثورية رنانة سيكون أسيرا للمدى الذى يمكن أن تتحمله هذه القوى وتؤمن به من تغيير حقيقى فى المجتمع.
نظام عبدالناصر قدم للرأسمالية المصرية مخرجا تاريخيا من أزماتها المتفاقمة مع الرأسمالية العالمية التى استكملت سيطرتها على أسواق معظم دول العالم، ولم تكن لتسمح بنمو الرأسماليات الناشئة فى دول العالم الثالث لكى تنافسها على الاسواق والموارد العالمية كما جاء فى رسالة الدكتوراه التى قدمها الباحث الايطالى جينارو جيرفازيز عن تاريخ الحركات اليسارية فى مصر والذى ترجمه للعربية المركز القومى للترجمة، فقد كشف الكتاب عن أن عبدالناصر استند إلى ما يمكن تسميته «البرجوازية البيروقراطية»، وهى إحدى شرائح الطبقة الرأسمالية، لمواجهة سيطرة الشركات الرأسمالية الغربية على الاقتصاد المصرى، ولتمهيد الطريق أمام الرأسمالية المصرية لتحقيق مصالحها ضمن شروط أفضل للاندماج مع النظام الرأسمالى العالمى، وكانت اجراءات الاصلاح الزراعى وسياسات التأميم والتمصير التى اتخذها النظام الناصرى فى الستينيات تستهدف تحقيق تراكم رأسمالى تحت إشراف الدولة، لكن هذه الاجراءات فشلت فى تحقيق هذا الاندماج بعد رفض الولايات المتحدة الأمريكية تسليح الجيش المصرى والمساعدة فى بناء السد العالى، فاضطر عبدالناصر للجوء للاتحاد السوفييتى، حتى جاء السادات ليقود انقلابا استراتيجيا على سياسات التقارب مع الاتحاد السوفييتى ليعيد «ربط» الطبقة الحاكمة فى مصر مع «بيئتها الطبيعية» وهى النظام الرأسمالى العالمى، والذى استمر حتى الآن كخيار وحيد مع سقوط المعسكر الاشتراكى بقيادة الاتحاد السوفييتى.
من خلال هذه التركيبة السياسية الناصرية يمكن فهم وتفسير معاداة عبدالناصر للديمقراطية، وقمعه لأى حركات جماهيرية، وفتحه المعتقلات لكل مخالفيه فى الرأى، بل وشروعه فى بناء دولة بوليسية، فالرجل كان يبنى سلطة جديدة لم تكن تتمتع بأى دعم جماهيرى، حاول الرجل أن يحصل عليه بكاريزما كان يتمتع بها، وبشعارات رنانة سقطت كلها مع رحيله هو شخصيا، وانتقلت إلى سياسات مناقضة لها بدون اضطرابات اجتماعية تذكر مع تولى السادات السلطة!
قد لا يمكن فى هذه المساحة تناول بشىء من التفصيل طبيعية السلطة التى بناها عبدالناصر التى يختلف حولها الكثيرون، لكن الذى ينبغى أن يتفق عليه الجميع ان التجربة الناصرية غير قابلة للتكرار أو حتى الاستلهام، لأنها كانت بنت عصرها الذى ذهب ولن يعود أبدا!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved