التعليم العالى.. والاقتصاد.. والتشغيل

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 7 أكتوبر 2012 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة

البطالة، ومعها فرص العمل منخفضة الأجور، السيئة فى شروط أدائها وظروفها، همٌ يجثم على صدور المواطنين، وبصفة خاصة الشباب والنساء فيما بينهم، كما أنها إهدار لفرصة فريدة فى تاريخ مصر هى فرصة الزيادة المستمرة فى قوة العمل نسبة إلى حجم السكان. هذه الزيادة المستمرة معناها نظريا ارتفاع القدرة على إنتاج الدخل والثروة، وانخفاض عدد من يعولهم من يعملون فترتفع بذلك قدرتهم على الإدخار، وبالتالى على الاستثمار، فيزيد الإنتاج وتنشأ حلقة فضلى من النمو الإقتصادى، وتتوسع فرص التنمية.

 

هذه الفرصة لن تستمر طويلا فالمتوقع نفاذها فى بداية الثلاثينيات من القرن الحالى، أى بعد زهاء عشرين عاما، وهى فترة قصيرة فى عمر الأمم والشعوب. البطالة ليست فقط إهدارا لهذه الفرصة، بل إنها تجعل من الزيادة السكانية عبئا ومشكلة يبحث لها عن حلول. ويزداد شعور المحلل والمواطن بالأسى عندما ينظر فى بنية البطالة وحدها، فهو يجد أن البطالة ترتفع بين الشباب، وخاصة بين المتعلمين تعليما متوسطا وعاليا منهم، وهى تبلغ ذروتها بين الفتيات والنساء المتعلمات. وعلى العكس، تنخفض البطالة بين الأميين، وبين من بالكاد يقرأون ويكتبون.

 

●●●

 

هذا الوضع يجافى المنطق والمشاهد فى غالبية أقاليم العالم، فالمفترض أن التعليم يرفع من مستوى المعلومات والمهارات، ويحسِن بالتالى من فرص الحصول على العمل. إلا أن هذا هو الوضع فى مصر، بل وفى المنطقة العربية برمتها، فضلا عن بعض مناطق أخرى وصل إليها مؤخرا.

 

وتنشأ عن هذا الوضع مفارقة صارخة، فالمطلوب فى مصر هو زيادة المكون المعرفى فى عملية الإنتاج، ورفع مستوى الإنتاجية ليمكن للاقتصاد أن ينمو، وأن يحسن من قدرته التناقسية فى الأسواق العالمية، وأن ينتج دخلا قوميا متزايدا يقضى بإيقاع حثيث على الفقر، ويرفع من مستوى المعيشة تدريجيا وبشكل ملموس. والتعليم، وعلى قمته التعليم العالى، هو السبيل إلى تحقيق ذلك. كيف يمكن الخروج من هذا المأزق: تعليم عال مطلوب، فى الوقت الذى يرتفع فيه معدل البطالة بين مخرجات التعليم العالى؟ التفسير الشائع لهذا التناقض هو أن هناك تفاوتا بين المعارف والمهارات التى يكتسبها المتعلمون تعليما عاليا، ومستوى هذه المعارف والمهارات، من جانب، وبين ما تطلبه المنشآت من معارف ومهارات، من جانب آخر.

 

التفسير صحيح، ولكنه صحيح جزئيا فقط، وهو لا يكفى مطلقا لتفسير البطالة المرتفعة بين الشبان والشابات. يقول كثيرون، وهم على حق، أنه ينبغى رفع نسبة الملتحقين بالتعليم العالى فى العلوم الطبيعية والرياضية، وأنه لابد من رفع مستوى العملية التعليمية فى الكليات والمعاهد العلمية لتواكب آخر ما توصل إليه العلم الحديث. ولتحقيق ذلك يطالب البعض الدولة بأن ترفع من مستوى الموارد المخصصة للتعليم العالى، بينما يجفل البعض الآخر من هذه المطالبة، مشيرا إلى الأعباء التى تنوء ميزانية الدولة بحملها، وداعيا إلى إفساح المجال للقطاع الخاص للمشاركة فى رفع مستوى التعليم العالى. 

 

صحيح أن هناك منشآت لا تجد فى سوق العمل طلبها من المتعلمين تعليما عاليا مرتفعى المهارة، فضلا عن العمال متوسطى المهارة، وصحيح أن رفع مستوى خريجى التعليم العالى سيساعد هذه المنشآت على تلبية طلبها. إلا أن المحلل لسوق العمل، ولبنية التشغيل والبطالة فى مصر يصل أيضا إلى استنتاج بسيط هو أن ارتفاع معدل البطالة بين المتعلمين تعليما متوسطا وعاليا يرجع، وللأسف، إلى أنه لا يوجد طلب عليهم. هذا بدوره يفسَر بانخفاض إنتاجية النشاط الاقتصادى الذى لا يستخدم فنون الإنتاج مرتفعة المكون المعرفى. وضعف المكون المعرفى فى عملية الإنتاج يفسر فى الوقت ذاته انخفاض البطالة بين غير المتعلمين. طلب المنشآت غير الملبَى هو طلب هامشى لا يصل إلى الكتلة الحرجة التى تفرض على الاقتصاد أن يشارك، بل أن يطالب، برفع مستوى التعليم. وربما يكون كافيا للدلالة على انخفاض المكون المعرفى فى عملية الإنتاج أن القطاع غير المنظم الذى تنخفض الإنتاجية انخفاضا شديدا فى الجانب الأكبر من وحداته يمثل أكثر من 80 فى المائة من النشاط الاقتصادى الحضرى الخاص فى مصر، وأن هذه النسبة فى تزايد.

 

●●●

 

المطلوب من الدولة أن تخلق بسياساتها الاقتصادية والصناعية والتشغيلية طلبا فعالا، من قبل القطاعين العام والخاص، على المتعلمين الذين تلقوا تعليما عاليا فى العلوم الطبيعية والرياضية، بل وفى العلوم الإدارية والاقتصادية وما عداها من العلوم الإجتماعية، فالإرتباط وثيق بين كل هذه العلوم وبعضها. السياسة التعليمية هى سياسة للعرض فقط، العرض من قوة العمل، ولكنها لا يمكن أن تنجح بدون سياسة مقابلة للطلب. التركيز على العرض وحده هو جوهر كل السياسات الليبرالية الجديدة، وهو أهم الأسباب فى فشلها وفى اندلاع الأزمات الاجتماعية، وفى تفجر الأوضاع السياسية أو فى مآزقها، فى بلدان العالمين النامى والمتقدم معا.

 

ينبغى الكف عن توهم أن سياسات سوق العمل وحدها، من توفيق بين العرض والطلب فى سوق العمل فى بنيتها الحالية، ومن تدريب تكميلى متهافت، ومن مساعدات واهية على إنشاء المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وغيرها، يمكن أن تحل مشكلة بطالة المتعلمين تعليما عاليا وأن تؤدى، بفعل يد السوق الخفية، إلى رفع مستوى الطلب على مخرجات التعليم العالى الجيد. السياسات الصناعية والتشغيلية المتداخلة، وسياسات الاقتصاد الكلى التى تؤطرها، هى وحدها الكفيلة بذلك. الطلب الحالى على المتعلمين تعليما عاليا عاجزا عن استيعابهم فى سوق العمل، فما بالك إن كان المراد زيادة عددهم ورفع مستوى معارفهم ومهاراتهم؟ السبيل إلى الحل هو تطبيق سياسات صناعية تفرز انتاجا مرتفعة الإنتاجية، تتطلب معارف ومهارات عالية المستوى. عندها يرتفع الطلب على مخرجات التعليم العالى ويضغط القطاع الخاص نفسه من أجل زيادة الموارد المخصصة لهذا التعليم من الميزانية العامة.

 

●●●

 

سنغافورة الصغيرة ليست نموذجا لبلد يصل عدد السكان فيه إلى خمسة وثمانين مليونا، ولكن سياساتها مثال يمكن استلهامه. لقد قررت سنغافورة أن تبنى اقتصادا متقدما، مرتفع الإنتاجية، وابتعدت عن الأنشطة الاقتصادية منخفضة القيمة المضافة.

 

ووضعت سنغافورة سياسة التشغيل، بل وسياسة الهجرة، فى خدمة سياساتها الاقتصادية، فتكلفة استقدام عامل مهاجر منخفض المهارة أعلى مثلا من تكلفة استقدام عامل أو مهنى مرتفع المهارة، وذلك لإثناء أصحاب العمل عن استخدام فنون الإنتاج التى تشغِل منخفضى المهارة ولحفزهم على الإقبال على تلك التى ترتفع القيمة الضافة لإنتاجها، وبالتالى تحتاج إلى أصحاب المهارات العالية.

 

لقد أدَت سياسة الاقتصاد عالى الإنتاجية إلى ارتفاع مستوى التعليم فى كل مراحله فى سنغافورة بشكل شبه تلقائى، فمراحل التعليم متكاملة، ولا يمكن تصور تعليم جامعى متقدم يستند إلى تعليم أولى و ثانوى هزيل. سنة بعد سنة، يحرز تلاميذ مدارس سنغافورة المركز الأول فى اختبارات «بيزا» الخاصة بتحصيل العلوم والرياضيات التى تجريها سنويا منظمة الأمم التحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، متفوقين على نظرائهم الآتين من بلدان نامية ومتقدمة، بما فى ذلك الولايات المتحدة، وألمانيا وغيرهما. هل من بينة أفضل على الصلة الوثيقة بين بنية الاقتصاد، والتعليم فى كل مراحله، والتشغيل؟

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved