مناهج التعليم الجديدة بين الانبهار والإحباط
هانية صبحي
آخر تحديث:
الأحد 7 أكتوبر 2018 - 10:15 م
بتوقيت القاهرة
ككاتب يحب معرفة آراء القراء فيما يكتب، وكباحث يهمه أن يفهم كيف تؤثر خلفية وتجربة القارئ فى تشكيل رأيه. وجدت تنوعا مهما فى ردود أفعال القراء على المقالات السابقة. لاحظت أن القراء الذين ليس لديهم اتصال مباشر بالتعليم الحكومى المصرى (ممن يلتحق أطفالهم بالمدارس الدولية مثلا) يغلب عليهم الصدمة والحزن من معرفة الأحوال القائمة. ولكن لفت نظرى أن بعضهم يرى أن المقالات متشائمة ولا تتيح فرصة للوزير الجديد لكى ينفذ خططه الطموح للتغيير. ومع أن كتاباتى قد تبدو متفائلة هادئة مقارنة بغضب الأهالى ويأس المعلمين المتصلين بالمنظومة، لكننى اعترف أننى كنت مثل هذه الأقلية التى لم تكن تريد التشاؤم. بل وظللت فترة طويلة لا أعلق على التصريحات التى تصدر عن الإصلاحات القادمة. وأظن أننى كنت أتمسك بالأمل بأن التغيير قد يكون فى الطريق، لكننى كلما بحثت أكثر وتابعت أكثر، كلما ابتعدت عن هذا الأمل. بل ووجدت أن الأشياء التى كانت تهدف لأكبر قدر من الإبهار، خاصة لهؤلاء الغير متصلين بالمنظومة، هى التى أصابتنى بأكبر قدر من الإحباط.
فمثلا انبهر البعض بعرض الوزير عن المنهج الجديد للطفولة المبكرة (رياض الأطفال) فى مؤتمر الشباب الشهر الماضى، وبالمثال المطبوع على أفخم الأوراق لشكل الكتب المتوقع الذى تم توزيعه على الحضور. بالتأكيد هو أمر إيجابى أن نطور مناهجنا ونبدأ فى ذلك من أول مراحل التعليم، فلماذا إذن كانت هذه من لحظات الإحباط الشديد؟ أول سبب للإحباط هو رؤية الكتاب فى حد ذاته، فمناهج الطفولة المبكرة الحديثة لا يتم أصلا طباعة مناهجها للأطفال! هذه المناهج يتم «تطبيقها» مع الأطفال فى أنشطة مختلفة من قبل معلم عالى التأهيل باستخدام مواد وأدوات تعليمية أخرى داخل الفصل وخارجه. وإذا تواجدت الكتب فى قاعات الطفولة المبكرة، فإنها عادة ما تكون قصصا مصورة لكى يقرأ منها المعلم لمجموعات من الأطفال (وهذه تطبع على ورق مختلف وسميك للغاية حتى لا تتلف بسهولة). ويمكن بالطبع أن يكون لدى المعلم نسخة من «المنهج»، ولكن هذه لا يتم إنتاجها بطريقة إنتاج كتب الأطفال، وإنما تحتوى على مزيج من الإرشادات والأمثلة والجدول الزمنى لتقديم المحتوى. فهل يرجع بنا المنهج الجديد للوراء لنطبع كتبا ونوزعها على الأطفال الصغار بخلاف باقى الدول المتقدمة (وبخلاف الحضانات الدولية فى مصر)؟ أم أن المنهج الجديد فعلا متطور ومبنى على الأنشطة كما سمعنا؟ وإذا كان كذلك فهل يجب أن نرى طباعة وتوزيع الكتب الفاخرة على الأطفال كإهدار لا داعى له للموارد، أم أن ذلك لا يهم لأن الأهالى هم من يدفعون التكاليف أصلا فى هذه المرحلة التى لا تتكفل الدولة بتوفيرها مجانا للمواطنين؟
***
ولكن بخلاف كل ذلك، فالإحباط كان له للأسف ثلاثة أسباب أخرى أكثر عمقا. أولا: هل ما نحتاجه أصلا هو منهج جديد؟ قد يستغرب البعض السؤال، فالمعتاد أننا ننتقد المناهج فى مصر. ولكن «المفاجاءة» أن مصر لديها بالفعل منهج متطور للطفولة المبكرة تمت صياغته بالتعاون مع جهات دولية كبرى منذ عدد من السنوات. وبالطبع لا يمكن القول أن هذا المنهج وصل بتعليم الطفولة المبكرة فى مصر لمستوى عالمى، وهذا بسبب العوائق الهيكلية الكبرى التى قابلت تطبيقه. فالجودة فى هذه المرحلة ترتكز فى الأساس على وجود معلمات مؤهلات يتم تدريبهن تدريبا محكما يعملن مع عدد صغير من الأطفال. وفى الأغلب يتطلب الأمر وجود ميسرات تساعدن معلمة الفصل نظرا للأعداد الكبيرة فى معظم فصول مصر. فأين نحن من توفير هذه الموادر البشرية عالية التأهيل؟ بل أين نحن من إتاحة تعليم الطفولة المبكرة لأطفالنا الذى يلتحق ٣٠٪ منهم فقط برياض الأطفال؟ لماذا يتم الآن الإنفاق على تطوير مناهج أخرى جديدة؟ لماذا لا يتم توجيه الجهود لعلاج جوانب القصور الحقيقية بداية من النقص فى الموارد البشرية المؤهلة وصولا لإشكاليات الإتاحة وتكدس الفصول وضعف تجهيزها للأنشطة؟ لماذا نهدر الموارد فى الاتجاه الخاطئ ونكرر الجهد المبذول، ونضطر لإعادة تدريب المعلمات والميسرات والموجهات على منهج جديد، دون أن نحل أصلا المشكلات الأساسية؟ وكيف يمكننا أن نظن أننا سنحقق نجاحا حقيقيا دون حل مشاكلنا الهيكلية؟
ثانى سبب للإحباط يتعلق بنقطة أعم وهى تطبيق تغيير تام فى المناهج المصرية يتم الإعلان عنه وتنفيذه فى نفس العام. كيف يمكن أن نغير مناهجنا فى عدة أشهر ومعظم الدول تأخذ عدد من السنوات لإدخال مثل هذه التغييرات المهمة، كما شرحنا فى مثال إنجلترا فى مقال سابق؟ كيف يمكن أن يدعونا هذا للثقة أن هناك إصلاحات احترافية محكمة فى الطريق وليس مزيدا من التخبط؟ وحتى إذا أردنا البدء سريعا فى التغيير، كان يمكن أن نتخذ المنحى التجريبى، فنطبق المنهج الجديد على نطاق ضيق فى إطار من الدراسة والمتابعة الدقيقة بهدف رصد الفجوات فى المحتوى والاحتياجات التدريبية للعاملين والمشكلات الإدارية التى يجب علاجها قبل تعميم المنهج. أما إذا تمسكنا بعدم تطبيق مرحلة تجريبية كما يصر الوزير، فالمتعارف عليه هو تطبيق سلسلة من الخطوات التحضيرية التى تأخذ عادة عدد من السنوات. وبدون هذه الخطوات لا يمكن أن نوفر التحضير والتدريب الكافى الذى ينقلنا إلى نظام متطور جديد. لأنه إذا كان التغيير حقيقيا وجذريا، فالطبيعى أن يتطلب الكثير من التدريب والإعداد. ومن دون ذلك، فإننا نسبب الارتباك الشديد لمعلمينا وإداريينا ونثقلهم بمهام كبيرة ومتعجلة لن تؤدى إلا للتعثر والصعوبات، كما نرى الآن بالفعل مع بداية العام الدراسى الجديد.
ثالثا، قد يكون البعض قد رأى ما أعلن من أن طلاب مصر فى جميع مدارسها سيتعلمون اللغة الإنجليزية من أول سنوات التعليم كخطوة إيجابية، بل ومبهرة. وقد يكون البعض أيضا قد ضحك كثيرا عندما شاهد الفيديو الذى تم تداوله أخيرا لمعلم لغة إنجليزية فى أحد المدارس يشجع الأطفال ليرددوا وراءه أغنية تحتوى على عبارات شديدة البساطة ومع ذلك يقولها بإنجليزية غير صحيحة ونطق غير سليم. التساؤل إذن هو من أين ستأتى الوزارة فجأة بكل هؤلاء المعلمين والمعلمات فى رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية الذين يجيدون الإنجليزية فى جميع قرى ومدن وأحياء مصر؟ وكم ستدفع كأجور لمن هن/هم بمثل هذه المهارات اللغوية والتربوية المتقدمة لتجذبهم لمهنة التعليم الابتدائى والحضانة؟ هل تعاقدت الوزارة بالفعل مع هذه الكفاءات أم أننا ننتظر أن ينتهى العام الدراسى لنجدها أم أننا ببساطة تعاقدنا مع نفس النوعية من المعلمين التى رأيناها فى الفيديو؟ ألم يكن من الأفضل أن نركز جهودنا على تعليم طلابنا موادهم الحالية جيدا قبل أن نفكر فى إضافة لغات جديدة لم نعد لإدخالها إعدادا جيدا؟
***
وبدون أن نرهق القارئ بتفاصيل أكثر، فالخلاصة أن ما نراه حتى الآن لا يدل على وجود استراتيجية واقعية محكمة لتطبيق مناهج جديدة تعالج القصور الموجود فى التعليم المصرى. ونأكد بكل ثقة أنه لن يجدى أى تطوير، مهما تم الإنفاق عليه وطباعة الكتب الفاخرة له، ومهما كانت الجهة الأجنبية التى طورته، إلا إذا بدأ بأهم عناصر العملية التعليمية: وهو المعلم وتأهيله وإعداده وأجره. ولن نكرر ما قلناه سابقا فى هذا الصدد، ولكن يمكننا أن نستعير هذه المرة العنوان الذى استخدمته الدكتورة نادين عبدالله فى مقال هام فى المصرى اليوم سألتنا فيه إذا كنا سنظل ندفن رؤوسنا فى الرمال، أم سنقر أخيرا بأن: «المعلم أولا».
باحثة متخصصة فى مجال تطوير التعليم
الاقتباس
لن يجدى أى تطوير، مهما تم الإنفاق عليه وطباعة الكتب الفاخرة له، ومهما كانت الجهة الأجنبية التى طورته، إلا إذا بدأ بأهم عناصر العملية التعليمية: وهو المعلم وتأهيله وإعداده وأجره.