الأديان السماوية والوضعية ومقدمات النبوة الإسلامية

رجائي عطية
رجائي عطية

آخر تحديث: الأربعاء 7 أكتوبر 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

يبدأ الأستاذ العقاد هذا الحديث بتناول الديانة «المجوسية»، ولم يكن أتباع أى دين من الأديان الشائعة قديما على استقرار فى عقيدتهم أو على ثقة بأحبارهم وأئمتهم، وكان أشدها اضطرابا ديانة الفارسية أو دياناتها المتعددة التى تشملها «الثنوية» أى الإيمان برب للنور ورب للظلام وعالم للخير وعالم للشر فى كون واحد.
وكانت هذه المجوسية تستعصى على الدعاة المصلحين من أيام الوثنية الآرية الأولى التى اشترك فيها الهنود والفرس، وقد عمل «زرادشت» جهده لتطهيرها من الوثنية، ومن شعائر الهياكل والمحاريب الخفية فلم يتيسر له ذلك إلا قليلا.
وجاء بعد «زرادشت» مصلحون من أتباعه، مزجوا الفلك بالتنجيم بالخرافة والعبادة فى نحلة واحدة، ولم يعرف عنهم الناس على البعد إلى عصر الميلاد ـ إلا أنهم رصدة للكواكب والخفايا والغيوب من وراء حجاب الظلام.
وأراد «مانى» الذى تُنسب إليه «المانوية» ـ أراد فى القرن الثالث للميلاد أن يغلق باب الوثنية فى الشرق ويرجع إلى «ثنوية» قريبة من «ثنوية» زرادشت وتوحيد الفلسفة العقلية، فحول قومه من الكتابة البهلوية إلى الكتابة الآرامية أو السامية وكاد أن يفلح فى إقناع ولاة الأمر بآرائه فى الإصلاح والتنزيه، لولا أن أفسدتهم عليه دسائس الكهان والوزراء، فسجن ومات فى السجن وقيل إنهم سلخوه وعلقوه مصلوبا لسباع الطير.
ثم كانت الطامة الكبرى ـ فيما يقول العقاد ـ فى عهد «قباذ» أبى كسرى أنوشروان الذى حضر بعثة النبى محمد وتلقى رسالته إليه بالسخط والوعيد.
ففى عهد «قباذ» ظهر «مزدك» داعية الإباحة والفوضى فى الأموال والأعراض، ولم يتزحزح خطوة واحدة من الثنوية إلى التوحيد أو ما يشبه التوحيد.. وقال كما قال «مانى» إن العالم كله فى قبضة إله النور وإله الظلام، وزاد عليه أن النور يعمل بالقصد والاختيار، وأن الظلمة تفعل بالخبط والعشواء.. أى أن النور عالم حساس والظلمة جاهلة عمياء.
وزعم «مزدك» أنه جاء ليبطل الخلاف بين العقائد والأمم، وينهى عن المباغضة والقتال، ولأن أكثر ما يقع بسبب النساء والأموال، فإنه قد أحل النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شركاء فيهما كاشتراكهم فى الماء والنار والكلأ.
ويقال عن «مزدك» هذا إنه كان عظيم الدهاء خبيرا بفنون الإغراء والإقناع.. وإنه بلغ من سلطانه على «قباذ» (أبى كسرى أنوشروان) أن أقنعه ببذل زوجته لمن يشتهيها ليعلم الناس الصدق فى إيمانه ويقتدوا به فى ترك التباغض والملاحاة فى الأعراض والعروض.. ويقال إنه كاد أن يستجيب ـ لولا أن تضرع إليه باكيا ولى عهد كسرى ألا يذله هذا الإذلال ويبتذل أمه أمام الناس هذا الابتذال!
وعلى الرغم من تتابع المصلحين واجتهادهم فى تطهير الديانة المجوسية من الوثنية والمراسم الهيكلية، حالت ديانتهم الغارقة فى الأرواح والشياطين بينهم وبين التوحيد، بل بينهم وبين «الثنوية» على بساطتها الأولى.. ولا يزال المجوس إلى اليوم يبدأون صلاتهم بعد منتصف الليل، ويقضون ساعات الصلاة الأولى فى تلاوة الأناشيد التى يسترضون بها شياطين الظلام، قبل انبثاق النور الأعظم عند الصباح!
اليهودية والمسيحية
أما اليهودية فقد كان قيام المسيحية فى معقلها الأكبر إيذانا حيا بنفادها وانتهائها إلى غاية الجمود والضيق. إذ كانت المسيحية فى الواقع إصلاحا واسعا فى جميع العقائد اليهودية التى جمدت على المراسم والنصوص وتحولت من الدين إلى نقيض الدين.
بل وكانت قد ظهرت فى عصر الميلاد عقائد إصلاح بين اليهود أنفسهم، منها ما تبناه «فيلون الحكيم» وغيره من أصحاب العقائد التى استقصاها الأستاذ العقاد واستقصى ما كانت تطرحه من أفكار بما فى ذلك الثورة على تفسير وعد إبراهيم بأسلوب العصبية والأنانية.
فلما سرى الإصلاح المسيحى مسراه، تجاوب معه الراغبون فى الإصلاح أو المستعدون له، بينما بقى الجامدون على جمودهم بل وعلى أشر مما كانوا عليه قبل الدعوة المسيحية. وقد جنى العناد والإصرار على الباطل ـ جنى جنايته المعهودة فذهبت ريح الكهانة والمراسم الهيكلية وتفرقت مراجع الديانة اليهودية مع كل مجمع وكل معبدوكل طائفة ذات مذهب فى التوراة 
أو التلمود أو تقاليد الأحبار والربانيين. وكان من آثار هدم الهيكل سنة سبعين للميلاد أن أشياعه فقدوا وحدة العقيدة والروح.
وعلى هذه الحال كان يهود العالم فى عصر البعثة المحمدية: بين أشتات يذهب كل منها مذهبه على حسب المجمع أو المعبد الذى ينتمى إليه، وبين شراذم متعنتين فى الجمود على الحروف والنصوص، ويرجعون بهذه النكسة إلى الداء الذى قامت المسيحية لإصلاحه قبل بضعة قرون، فتجددت الحاجة إلى الإصلاح.
محنة المسيحية
يقصد الأستاذ العقاد بهذ الفصل، المحنة التى صادفت المسيحية والمسيحيين من الاضطهاد والتعذيب الذى باشره حكام البلاد الرومانية شرقا وغربا، والذى لم ينته باعتناق من اعتنق منهم المسيحية، فقد جعل يباشر نوعا آخر ـ كحاكم ـ من الاضطهاد والظلم، وجعل هؤلاء يدسون مطامعهم بين المختلفين على تفسير المسيحية الأولى، وفرقوهم شيعا متباغضة متنافرة، ولم يكن خلاف المذاهب آنذاك كخلاف اليوم الذى يسمح بوجهات النظر، بل كان يعمد إلى طرد المخالفين ويرميهم بالكفر والضلالة، والمروق والهرطقة، وتعددت النحل بين الأريوسية والنسطورية واليعقوبية والملكية تبعا للأقوال فى الطبيعة الإلهية ومنزلة الأقانيم الثلاثة منها. ثم يأتى النزاع بين الكنيستين الشرقية والغربية فيأتى على البقية الباقية من الثقة والطمأنينة، ولم يدع ركنا من العقيدة ببعيد عن الخوض فيه.
وتمت المحنة الكبرى بالقتال الدائم بين الدولتين، فإذا بالبلد الواحد ينقلب فى الحكم بين سيادة الفرس وسيادة الروم فلا تهدأ له حال فى نظام ولا فى سلام ولا فى معاش يأمن فيه الناس، لا فى الدين ولا فى السياسة.
وقد كانت هذه هى أحوال العالم، أو هى مقدمات الدعوة الإسلامية من تلك الأحوال. ولكنها المقدمات التى تنتظر العناية الإلهية.
الجزيرة العربية
قبل البعثة المحمدية
كان فى الجزيرة العربية مجوس ويهود ونصارى، وعرف أبناء الجزيرة هذه الأديان عن طريق القدوة الفردية فى رحلاتهم ومبادلاتهم مع الأمم المحيطة بهم.
وكانت المجوسية معروفة فى قبائل تميم ومنهم زرارة. والأغلب أنها شاعت فى هذه القبائل لأنها كانت سهلة هينة عليهم لا تكلفهم بناء الهياكل ولا نحت الأصنام.
ولعل أحدا من هؤلاء لم يكن يلتفت إلى مجوسية المجوس إلا حينما يحدث الزواج بين المحارم الذى لا يحله عامة العرب.
وكانت اليهودية أعم انتشارا من المجوسية فى الجزيرة العربية، لأن المجوسية ظلت محصورة فى عشائر من العرب من سكان بين البحرين.
ولكن اليهود كانوا يهاجرون بجملة قبائلهم من أرض كنعان كلما أصابهم القمع والتشريد. وقد هاجر بنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل جملة واحدة إلى يثرب.
وكان ممن يسكن المدينة، حتى نزلها الأوس والخزرج، قبائل من بنى إسرائيل، منها هؤلاء وبنو قينقاع وغيرهم، وجماعة من أبناء اليهود فيهم الشرف والثروة والعز على سائر اليهود، وكان معهم من غير بنى إسرائيل بطون من العرب.
ولم ينزل اليهود بغير المدن والقرى التى تحميهم فيها الآطام والأبنية، فنزلوا تيماء وفدك وخيبر واشتغلوا بالتجارة والصناعة فى المدن، وزرعوا الأرض حولها للمرعى والاتجار فى محاصيلها.
ويقال الكثير عن دخول اليهودية إلى اليمن، وقيام دولة يهودية فيها، والاحتمال الأرجح أن اليهود وصلوا إلى اليمن مهاجرين متفرقين، وربما بدأت هذه الهجرة أيام السبى البابلى.
على أنه أيا كان تاريخ اليهودية فى اليمن وفى بلاد العرب عامة، فإنها لم تكن ذات رسالة دينية أو روحية للصلاح والإصلاح، ولم تكن معترفا بها بين بنى إسرائيل فى غير الجزيرة العربية.
ولم يكن اليهود قدوة حسنة فيمن حولهم، بل كانوا نقيض ذلك فى كل علاقة بينهم وبين العرب أو بينهم وبين أنفسهم.
ولما نشبت الحرب بين الأوس والخزرج تفرق اليهود بين الحزبين، فكان بنو قينقاع مع الخزرج، وكان بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس .
ولم يتحرك النضيريون والقرظيون لنصرة بنى قينقاع فى أزمتهم مع المسلمين حين صعد أحدهم على جدار يجلس النبى تحته ليلقى عليه صخرة من أعلاه، ووصفتهم سورة الحشر بأنهم «لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعا إِلاَ فِى قُرى مُحَصَنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتَى ذَلِكَ بِأَنَهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ» (الحشر 14).
ولقد عاش اليهود ما عاشوا فى جزيرة العرب ولم يؤثر عنهم قط أى سعى فى سبيل مطلب من المطالب العامة والخاصة غير الاستكثار من الربح المشروع وغير المشروع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved