الفارس النبيل

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 7 أكتوبر 2021 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

في الحديث عن أستاذ محمد فائق أو الفارس النبيل بألف ولام التعريف توجد مشكلة حقيقية، ففي هذا الشخص درجة من التوحّد بين النُبل الإنساني والبراعة المهنية تجبرك- وأنت تتكلم عن أدائه الرفيع في كل المناصب التي توّلاها- أن تكون مشدودًا للكلام عن سماته الشخصية المحببة للنَفس. صعب جدًا أن تفصل في شخصيته بين الجدّية المفرطة في الاستعداد لجلسة المراجعة الدورية الشاملة لملف حقوق الإنسان في مصر أمام المجلس المختص بچنيڤ، والروح المحبّة جدًا للحياة التي تأخذنا معها نحن أعضاء الوفد المصري في تمشية مسائية تنتهي بدعوة لعشاء أنيق بأحدث مطاعم العاصمة السويسرية يقدم اللحم الأرچنتيني الفاخر. إنه رجل يعمل حتى يكّل ويعيش الحياة كأحلى ما يمكن أن تعاش. صعب جدًا أن تنسى أنه وهو الغارق حتى أذنيه في العمل التنفيذي الشاق في الحقبة الناصرية، يجد متسعًا من الوقت ليرعى الشمبانزي أنطوانيت التى تركها له صديقه السفير بعدما تغير مكان عمله من أفريقيا إلى أوروبا، فعاشت أنطوانيت في حديقة حيوان مصغّرة داخل بيت فائق، حديقة تسكنها كلاب وقطط وببغاء، ويحيطها الورد والشجر من كل صوب... هذا الشجر كان يقلمّه بنفسه حتى وقت قريب. إنه رجل يفهم المسؤولية بمستويات متعددة أعلاها الوطن، ويتسّع فهمه لمعنى الحقوق فإذا به يشمل كل شئ حيّ. نعم الفصل صعب جدًا بين الجانبين، فلا بأس من أن يتداخلا معًا في السطور التالية.
***
اقترب محمد فائق من جمال عبد الناصر أثناء دراسته في الكلية الحربية، ولم يكن في النواة الأولى لتنظيم الضباط الأحرار بحكم حداثة سنه، لكنه التحق به فيما بعد وصار من أبرز عناصره. اختاره التنظيم، بحكم ملامحه "الخواجاتي"، ليقترب من معسكرات الجنود الإنجليز بالسويس ويستولي على سلاحهم ليحارب به الفدائيون معركة الكرامة. وهنا نفتح قوسين لنقول إن هذه هي أول مرة لعبت فيها ملامح محمد فائق دورًا مهمًا في حياته، أما المرة الثانية فكادت أن تنتهي بكارثة عندما تنحّى الرئيس عبد الناصر عن الحكم لصالح زكريا محيي الدين فكادت الجماهير الغاضبة أن تفتك بفائق ظنًا منها أنه زكريا محيي الدين، وبين الرجُلَيّن درجة من التشابه في الشكل.
***
يحكي لي الأستاذ حلمي شعراوي، أحد أعمدة الدراسات الأفريقية أو المواليمو أي المعلّم باللغة السواحيلية، كيف شاءت الأقدار أن تجعل من محمد فائق رجل المهمات الصعبة. فلقد قاد فريق الضباط الأحرار الذي حاصر قصر عابدين يوم ٢٣ يوليو. وعندما صارت أثيوبيا مخلب قط للإضرار بمصالح مصر عن طريق مهاجمة السودان أطلق محمد فائق أول برنامج موجّه ضد أثيوبيا وسافر إلى روما حيث كان يقيم أحد قادة الكفاح الوطني الإريتري وعاد به لتستضيفه القاهرة. تأزمّت مفاوضات الجلاء مع الإنجليز فكرّر فائق فكرة البرامج الموجّهة هذه المرة ضد الإنجليز، ومن بعد صارت هذه الآلية الإعلامية واحدة من أهم آليات دعم حركات التحرر الوطني في أفريقيا. ويقودنا ذلك لدوره المؤسّس لعلاقات مصر الأفريقية إبّان عمله كمدير لمكتب الرئيس عبد الناصر للشؤون الأفريقية. أقام شبكة من العلاقات الوطيدة مع قادة حركات التحرر، وتحوّل مقّر الرابطة الأفريقية في ٥ شارع أحمد حشمت بالزمالك إلى وجهة لهؤلاء القادة، وعندما طلب بعضهم فتح مكاتب في القاهرة كان لهم ما أرادوا بدايةً بمكتب جنوب أفريقيا ثم كينيا فأوغندا فالكاميرون. وقبل عدة أشهر استضافت مؤسسة كيميت بطرس غالي أول رئيس لناميبيا سام نوچوما فإذا به يتذكّر باعتزاز هذه الفترة التي قضاها في مصر وكيف أثّرت في مساره السياسي بل ويتذكّر عنوان الرابطة الأفريقية في الزمالك. قام محمد فائق بنزع فتيل الحرب الأهلية في تنجانيقا بعد ثورة زنجبار عام ١٩٦٤ وقدّر له الزنجباريون وقفه مذابح العرب على يد الأفارقة. وتنبّه لمحاولة جعل روديسيا بؤرة عنصرية مماثلة لإسرائيل في أفريقيا فحشد الجهد الأممي لقطع الطريق على هذا التطور. وجعَل من لجنة تنسيق تحرير المستعمرات داخل منظمة الوحدة الأفريقية بؤرة لتدريب المقاتلين وتسليحهم، كان دوره رائعًا. إنه السياسي شديد الإيمان بأفريقيا وشديد الإخلاص لها، يخصص في ڤيلته (الوحيدة في شارع نهرو التي مازالت صامدة وسط غابة البنايات المرتفعة) غرفة كل ما فيها ينتمي لهذه القارة: الطبلة والتماثيل والصور وشهادات التقدير، ومن وقت لآخر يرتدي ساعة أهداها له هيلاسلاسي.
***
ما بين انتقال محمد فائق من تحرير الإنسان بالكفاح المسلح إلى تحرير الإنسان بالنضال الحقوقي فإنه أمضى عشر سنوات في سجن السادات في قضية مراكز القوى. رفض فائق مقايضة الحرية بالكرامة، فعندما طُلب منه أن يعتذر للسادات مقابل إطلاق سراحه أبَى وفشل السجن في كسر إرادته. زمان عندما كان طالبًا في الكلية الحربية وشارك في مسابقة للفروسية، طرحه الجواد أرضًا فظل ممسكًا باللجام والجواد يسحله وهو ينزف. لفتت شجاعته انتباه لجنة التحكيم فقررت أن تمنحه جائزة، وهكذا كان حاله مع السجن، تحوّل به من تجربة محبطة إلى نقطة انطلاق للدفاع عن حقوق الإنسان. فعندما أُطلِق سراحه عام ١٩٨١ سرعان ما شارك في تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان وبدأت صفحة جديدة من حياته. في رحاب المنظمة التي تولّى أمانتها العامة عام ١٩٨٦ تعرّفت على محمد فائق لأول مرة، واقتربتُ في شخصه من الحقوقي وأيضًا من الإنسان ورأيتُ كيف يمكن أن تصير قضية حقوق الإنسان قضية العمر. أدمنتُ معه كلمة أهلااااااا يستهل بها كل مكالمة بيننا، وصرتُ أنتظر تكراره مصطلح "إما وإما" كلما رآني لأنني قلتُ أمامه ذات يوم إن الصحيح لغويًا أن نقول إما وإما وليس إما أو، فما التقينا بعدها إلا ويسألني مداعبًا "إيه أخبار إما وإما؟". صعب أن تتصور أن هذا الرجل الصلب في مواجهة الشدائد هو نفسه الشخص مرهف الحس الذي يتذوّق الموسيقى الكلاسيك ويندمج مع الأحفاد كأنه واحد منهم ويتحلى بروح الدعابة بلا مدى، فإن أنت وصفته بأنه ابن نكتة لا تكون مبالغًا. إنه الأنيق فكرًا ومظهرًا وسلوكًا، والنبيل الذي لا يؤذي شعورًا ولا ينهي خدمة معاون في البيت أو العمل ويترّفع عن الصغائر. إنه الإنسان الكبير الذي يلتفت للتفاصيل الخاصة بكل مَن حوله ويهتم بها وبهم، والمحتَرَم الذي لا يمّد يده ليصافح أحدًا إلا واقفًا. عملتُ معه في المنظمة العربية لحقوق الإنسان طيلة خمس سنوات، وعاصرتهُ وهو يرى أحلامه مع ساعده الأيمن ورفيق مشواره الحقوقي القديس محسن عوض تتحقق لهما تباعًا: من أول السماح للجمعيات الأهلية العربية بالنشاط في مجال حقوق الإنسان، وحتى تكوين مجالس وطنية عربية لحقوق الإنسان، مرورًا بتشكيل وزارات مختصة بحقوق الإنسان، فأول وزارة معنية بحقوق الإنسان في الوطن العربي كانت في المغرب مع حكومة عبد الرحمن اليوسفي نائبه السابق.
***
من قبل أن أعمل تحت رئاسته مجددًا في المجلس القومي لحقوق الإنسان عام ٢٠١٣ وحتى أيام خلت، عملتُ معه في المؤتمر القومي العربي وفي إطار مركز دراسات الوحدة العربية وفي دار نشر المستقبل العربي، فوجدته مخلصًا لعروبته إخلاصه لأفريقانيته قادر على التأليف بينهما كما يؤلف بين كل الأشياء بيسر شديد. أما خلال سنوات عمل المجلس، فإنه قاد الدّفة بينما كانت المرحلة بالغة الخطورة في تاريخ مصر الحديث، الحرائق تلتهم الكنائس في صعيد مصر، اقتحام أقسام الشرطة لا يتوقف، اغتيالات هنا وهناك، تدمير البنية التحتية، حرب شائعات وهجوم على المجلس يأتي من الداخل ومن الخارج، لكن ولا يوم طُرِح فيه خيار التوقف عن العمل، بالعكس فإن أكاذيب الإخوان كانت تقابلها شفافية تقارير المجلس، ولغة الرصاص كانت تواجهها اللغة الحقوقية المنضبطة، وكل روح تُزهق كانت تجدد تشبُث المجلس بالحق في الحياة كأسمى حقوق الإنسان. مكتبه مزار للوفود الأجنبية يشرح لها ويسمع منها وجاهز للشراكة والتشبيك مع المؤسسات الحقوقية في الداخل والخارج. يأخذه الأفارقة بالأحضان قبل كورونا ويكّنون له كل تقدير. يعمل بروح الفريق سواء مع نائبه الأستاذ عبد الغفار شكر والأمين العام السفير مخلص قطب أو معنا نحن الأعضاء، أما الفترة التي ترأّس هو فيها المجلس إداريًا وترأسه الدكتور بطرس غالي شرفيًا فإنها بحق كانت الفترة الأروع.
***
إن أستاذ محمد فائق هو أبو حركة حقوق الإنسان العربية، إنه باني مؤسسات الحركة وعلاقاتها، وهو المؤمن بها والمدافع عنها والممثّل لها. وهو عندما يترك رئاسة المجلس لتتولاها السفيرة القديرة مشيرة خطّاب فإنه يفعل ذلك وقد أرسى أسسًا يرتفع فوقها البناء وتتواصل المسيرة ويتجدّد العطاء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved