فراغ القوة تهديد للاستقرار

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 7 نوفمبر 2013 - 7:15 ص بتوقيت القاهرة

أتصور أن الشرق الأوسط يقدم نماذج متعددة تؤكد فكرة تراجع القوة فى عديد الدول، وليس فقط عند القمة الدولية.

تطرح التطورات الدولية الراهنة فكرة تبدو للوهلة الأولى خيالية أو مستحيلة. علمتنا الحروب العالمية والنزاعات الإقليمية الكبرى، كما علمتنا الكتب والدراسات المتخصصة فى العلاقات الدولية، وممارسات خبراء الدبلوماسية والمفاوضات أن قوة الدولة مسألة نسبية وليست مطلقة. أمريكا ربما كانت دولة قوية بالنسبة لروسيا وكندا والمكسيك، وروسيا ربما كانت دولة قوية بالنسبة للصين وبولندا وألمانيا الغربية والمملكة المتحدة، ومصر ربما كانت دولة قوية بالنسبة للسودان وليبيا ودول عربية وأفريقية متعددة. لكن لم تكن أمريكا أو روسيا أو مصر فى أى وقت وكل وقت دولا قوية بشكل مطلق أو دائم.

كتبت هذه المقدمة تمهيدا لطرح الفكرة التى بدت لى لأول وهلة مستحيلة، حتى بدأت أتعود عليها وأناقشها مع نفسى قبل أن أناقشها مع زملاء ومحاورين. خلاصة ما أطرحه هو أنه قد لا يوجد فى النظام الدولى الراهن دولة تستحق أن توصف بالقوة، نسبية كانت أم مطلقة. بمعنى آخر، أزعم أن «الضعف» أصبح سمة عامة تلتصق بالغالبية العظمى من الدول الكبرى خاصة، وإذا سمحنا لأنفسنا «بتدريج» هذه الفكرة تمهيدا لمناقشتها، لقلنا إن شواهد عديدة وقعت خلال السنوات الأخيرة تشير إلى أن دولة بعد أخرى مستعدة بدون خجل أو حياء أن تعترف أنها فقدت جانبا من قوتها، وفى أحوال معينة قد تعترف بأنها وضعت خططا استراتيجية متوسطة المدى تحقق بتنفيذها هدف تقليص مسئوليتها الدولية وإعادة تقييم مصالحها القومية وتخفيض مصادر قوتها المادية مثل عدد الجنود وميزانية التسلح وإغلاق قواعد عسكرية فى الخارج والداخل.

نعرف أن أمريكا، عن قصد وعمد، تفعل هذا الشيء فى هذه اللحظات التى تعيشها، لعلها خطة «أوبامية»، نسبة إلى باراك أوباما، جاء بها من خارج النظام السياسى الأمريكى ليدخل بها التاريخ، أو تبناها وهو فى الحكم تحت ضغط عوامل داخلية وخارجية متعددة، وعلى ضوء واقع الأزمات الاجتماعية والمالية المتلاحقة، أو نتيجة أخطاء ارتكبها هو وإدارته، وكلها أسباب كافية لإزاحة سيرته إلى خارج التاريخ. يستحيل أن نحكم الآن. الأمر الوحيد المؤكد أمامنا هو أن أوباما حريص على أن يعيد تفصيل مكانة أمريكا ودورها فى قيادة النظام الدولى بما ينسجم مع تراجع مصادر قوتها الفعلية ومع ضخامة وتعقد المشكلات الدولية التى يستعصى على دولة واحدة حلها، مهما بلغت هذه الدولة من القوة.

 

كنا نقول، ومازال كثيرون يقولون، إن قوة أمريكا تراجعت لأن قوة الآخرين تقدمت. يبدو أننا بالغنا فى تقدير قاعدة القوة كمسألة نسبية، فأمريكا، كما هو واضح لنا تتراجع لأن مصادر قوتها الذاتية تتراجع وليس لأن الاتحاد الأوروبى، حليفها الأساسى، حقق وحدة أوروبية أو معجزة اقتصادية فصار يحتل مكانة الحليف الأقوى فى المعادلة الغربية. الواضح لنا، وضوح التراجع الأمريكى، أن القوة الكلية، بمعنى مجموع «قوى» الدول الثمانى والعشرين، تراجعت فى السنوات ذاتها التى شهدت تراجع القوة الأمريكية. ولدينا فى حالة عدم الاستقرار الاجتماعى والسياسى فى دول مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا دليل قوى. لدينا أيضا دليل الانقسام فى الرأى بين دول الاتحاد حول قضايا جوهرية مثل مستقبل الاتحاد واحتمالات انسحاب بريطانيا وحلول الأزمة الاقتصادية والخلاف حول مستقبل التعاون مع النظام العربى وتسوية الصراع العربى ــ الفلسطينى والاتفاقية التجارية مع الولايات المتحدة ومستقبل العلاقات مع روسيا والموقف من تحول أمريكا نحو آسيا.

 

الحادث فى أوروبا ربما أكد بشكل غير مباشر نبوءة باراك أوباما، أو لعلها كانت رؤية واجتهادا لا أكثر، حين قرر تخفيض روابط بلاده بالأوروبيين. اعتقد أوباما أن أوروبا شاخت ولم يعد لديها ما تقدمه سوى دروس رومانسية من ماضيها البعيد.

أوروبا فى نظر أوباما لم تعد رصيدا يعتمد عليه لو شاءت أمريكا أن يستمر الغرب حلفا أو قوة توسعية، وبرهانه الذى يعتمد عليه هو الانسحابات الأوروبية المتتالية من حرب أفغانستان والتردد المتواصل فى المشاركة بقوات وأموال فى حروب وتسويات إقليمية خارج أوروبا إلى جانب أمريكا مثلما حدث خلال الساعات القلائل التى اعقبت إعلان أوباما نيته قصف سوريا. هى أيضا لم تعد رصيدا منذ أن بدأت ألمانيا تقودها نحو الاهتمام بروسيا، عملا بالقاعدة التاريخية القديمة التى دفعت قادة أوروبيين عديدين على امتداد التاريخ الحديث لتحقيق هدف «أوروبة» روسيا، ومنعها من اختيار بديل الانعزال والتقوقع أو الاستمرار فى تبنى الشكوك تجاه دول غرب القارة.

 

أنا شخصيا، كنت من بين القائلين، بأن صعود الصين سبب غير مباشر فى انحدار الولايات المتحدة كان الظن أيضا أن تأخر حكام الصين عن ممارسة دور دولى يتناسب مع قوة بلادهم الصاعدة يعود إلى أنهم مازالوا ينفذون خطة التصعيد بتدريج مدروس. لاحظنا خلال الشهور الماضية، وبخاصة فى أعقاب انعقاد مؤتمرى بالى وبروناى لقمة دول جنوب وشرق آسيا، أن الصين، عندما غابت الولايات المتحدة عن القيادة، وجدت نفسها فى موقع القائد بدون منافس. ومع ذلك كان مبهرا الأسلوب الذى انتهجته فى المؤتمرين لتأكيد نيتها فى استمرار الصعود نحو القمة، فى الوقت نفسه عدم القفز أو التهور فى الوصول إليها.

بكلمات أخرى، الصين رغم قوتها الظاهرة والصاعدة، عسكريا واقتصاديا وسياسيا، لا تزال دولة عظمى «ضعيفة». تابعنا خطواتها فى القضية السورية، وبخاصة أن صارت قضية دولية خطيرة. وجدناها فى أحسن الأحوال «مقلدة» بحذر للسياسة الروسية. بل إن المثال بأكمله، وأعنى المثال السورى، يؤكد أن روسيا نفسها ليست على درجة من القوة تسمح لها بأن تحتكر التأثير فى القضية وأن تصل بها إلى نهاية هى وحدها التى تقررها. تماما وبالقدر نفسه مثل الولايات المتحدة، التى أكدت خلال الشهور الأخيرة حقيقة أن مجمل قوتها الناعمة والصلبة على حد سواء لم تكن كافية لاحتكار فرض الحل فى سوريا.

 

بالإضافة إلى ما سبق، أتصور أن الشرق الأوسط يقدم نماذج متعددة تؤكد فكرة تراجع القوة فى عديد الدول، وليس فقط عند القمة الدولية. إيران أكدت هذا المنحى حين قررت الاعتدال فى المواجهة الناشبة بينها وبين الولايات المتحدة، إذ إنه لولا الشعور بتراجع مجمل القوة الإيرانية، ناعمة وصلبة، ما لجأت القيادة الدينية فى طهران إلى الكشف عن وجه آخر لإيران أكثر انسجاما وواقعية مع ظروف ما بعد الحصار الاقتصادى والعزلة الدبلوماسية وتفاقم الفوضى فى دول الربيع العربى.

تركيا قدمت المثال الثانى بتراجع نفوذها الشعبى والسياسى فى معظم دول الربيع العربى ودول عربية أخرى، بل وفى أوروبا الغربية حيث الحلم التركى لايزال رهن القرار الاوروبى، وإن بأمل أضعف كثيرا من أمل العقود الماضية. تراجع القوة التركية وبخاصة الناعمة فى دول الإقليم نابع عن سوء تقدير سياسى من جانب حكومة أنقرة للموقف من الدين السياسى فى لحظة فارقة فى تطور النظام العربى. من ناحية أخرى خصمت «انتفاضة تقسيم» جانبا من أرصدة القوة التركية وجعلت تركيا تبدو غير بعيدة عن احتمالات الثورة الشعبية. من ناحية ثالثة كان للموقف التركى من الثورة السورية آثار سلبية بسبب تصرفات اشتركت فيها مع دولة قطر، وبعضها يتعلق بالتدخل فى توجهات قوى الثورة لغير صالح التيار الرئيسى فيها.

 

الحديث عن تركيا يجرنا إلى الحديث عن مجموعة البريكس. إذ لاشك أن منحنى المجموعة كقوة دولية صاعدة كشف عن مرحلة تباطؤ واضح، ربما باستثناء الصين. بل وحتى الصين، فقد تعمدت ألا تترجم الزيادة فى مجمل مؤشرات قوتها ممارسة فعلية على مستوى القيادة الدولية. كذلك تعرضت القوة البرازيلية لانكماش ناتج عن تدهور فى بعض قطاعات الخدمات وانتفاضة شعبية لها ما يبررها على صعيد الفساد وهدر الإمكانات. ظهر هذا الانكماش واضحا خلال الأزمة الأخيرة بين برازيليا وواشنطن حول التنصت على هواتف الرئيسة ديلما روسيف، إذ لم يتحقق تضامن إقليمى مناسب يشد من أزر البرازيل والمكسيك فى المواجهة مع الولايات المتحدة.

 

تتعدد مظاهر ضعف «القوة الدولية»، هناك ضعف قوة الكبار، كل على حدة، ولكن هناك أيضا، مظاهر تدل على ضعف تماسك معظم التحالفات الدولية والإقليمية، كتراخى التزام الدول الأعضاء بمقررات الحلف وخططه أو النقص فى الولاءات أو إيلاء مصالح أخرى أهمية أكبر من مصالح الحليف. من ناحية أخرى يبدو واضحا أن الضعف استشرى إلى حد التأثير فى أداء وكفاءة المنظمات الإقليمية، ومنها الاتحاد الأوروبى وجامعة الدول العربية.

 

هذا الضعف فى «القوة» إن صحت تقديراتى، لن يكون فى صالح الاستقرار فى العالم، وبخاصة فى مناطق النزاعات والثورات. وهو بالتأكيد لن يكون فى صالح العالم العربى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved